العرب اللندنية / يواجه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لحظة حاسمة في حياته السياسية، لكنه لا يزال يصر على عدم التنازل ولو قيد أنملة عن طموحاته السلطوية وإجهاض تطلعات الأتراك والأكراد في العودة إلى النظام الديمقراطي وإقرار سيادة القانون. وعلى الرغم من مرور أسبوعين على انتهاء الانتخابات البلدية، ما زال الناخبون الذين صوتوا لصالح كتل المعارضة يتساءلون بحيرة عما إذا كان أردوغان سيترك إسطنبول لحزب الشعب الجمهوري، وعما إذا كان السياسيون الأكراد الذين ينتمون لحزب الشعوب الديمقراطي سيحصلون على التفويض اللازم من أجل ممارسة سلطاتهم في الولايات التي فازوا بها. وظهر بوضوح في كلتا الحالتين مدى قوة النظام الإداري الاستبدادي في تركيا وسيطرته على مقدرات الأمور في البلاد، حيث رضخ المجلس الأعلى للانتخابات لسلسلة من انتهاكات القانون ليساهم بدوره في دفع العملية برمتها في الاتجاه الذي يريده أردوغان ودائرته. ونتيجة لذلك، اتسعت الفجوة بين إرادة الشعب والتعنت الاستبدادي لهيكل السلطة القائم في تركيا. وكل تحرك خاطئ من جانب أردوغان بدعم من جماعة المنتفعين المحيطين به يدفع البلاد أكثر فأكثر إلى حافة الفوضى. ولا توجد أي إشارة، حتى الآن، على إمكانية الانحراف عن هذا المسار. لكن، هل يدرك أردوغان حجم المشاكل التي تسببت فيها إدارته وظلت تؤجل التعامل معها على مدار السنوات الماضية؟ بالنظر إلى نتائج الانتخابات الأخيرة وردود الفعل إزاء سياسات أردوغان داخليا وخارجيا مؤخرا، يمكن أن تكون الإجابة "نعم". لذلك، قد تخيم على خطته هذه الأيام غيمة من الضباب الكثيف. نعم، ربما يظن حاكم تركيا القوي أن الإبقاء على إسطنبول أو التخلي عنها يعد لحظة حاسمة لبقائه السياسي، وأن باستطاعته تسخير جميع موارد الدولة للحفاظ على حكمه القائم على الخوف. ومع ذلك، يجب أن يكون مدركا أيضا لحقيقة أن عجلة التطورات الخارجة عن نطاق سيطرته ربما تكون قد بدأت في الحركة، وأنها قد تؤدي إلى إضعاف قبضته وتقصير أمد حكمه. أول هذه التطورات هو التدهور المستمر للاقتصاد الذي يجعل تركيا بحاجة ماسة لدعم صندوق النقد الدولي. والثاني هو العاصفة التي تتشكل بسرعة في واشنطن بسبب إصرار أردوغان على شراء منظومة صواريخ (أس- 400) الروسية للدفاع الجوي، وهو ما يدفع ببطء في اتجاه فرض عقوبات على حكومته. أما التطور الثالث، والذي يبدو أنه دخل دائرة الأحداث بشكل غير متوقع، فيحمل نذير شؤم وجودي بالنسبة لنظام أردوغان، حيث تمت الإطاحة بعمر حسن البشير، الرئيس الإسلامي للسودان، من جانب القوات المسلحة تحت ضغوط شعبية. وإلى جانب التطورات في ليبيا، فإن التغيير المفاجئ في السودان من شأنه أن يكون أكبر مصدر قلق بالنسبة لأنقرة، وذلك لأن سقوط البشير يشكل ضربة قاسية لأولئك الذين يحلمون باستمرارية أي نظام حكم سياسي يهيمن عليه الدين. يقول المحلل السياسي غسان إبراهيم "في الوقت الذي يكتب فيه السودان فصلا جديدا في تاريخه بعد إزاحة عمر حسن البشير، فإنه أيضا يكتب كلمة النهاية لمشروع الإسلام السياسي الذي استمر ثلاثة عقود وأثبت فشله الذريع. فقد نتج عن هذا المشروع العديد من الأزمات في السودان وأدى إلى تقسيم البلاد واندلاع حروب أهلية لا تزال آثارها وآلامها حاضرة حتى الآن". أما خبير التاريخ الإسلامي رشيد الخيون فقال "نشهد هذه الأيام سقوط معقل جديد للأحزاب الإسلامية. وبالتالي، أعربت العديد من الدول والشخصيات الهامة عن قلقها وظهر عليها الإحباط، وذلك لأن مشروع الإخوان المسلمين الذي تروج له في تراجع". ولم تخف مصادر من حزب أردوغان، حزب العدالة والتنمية الحاكم، حقيقة أن طموح زعيمها كان يتمثل في تنصيب نفسه قائدا للعالم الإسلامي، متبعا في ذلك مبادئ وتعاليم جماعة الإخوان المسلمين. ومع ذلك، وجد حزب العدالة والتنمية نفسه في مواجهة حقيقة تاريخية تقول إنه إذا اقترنت هيمنة الأغلبية الوحشية بالتضخم المفرط في الأراضي التي يحكمها الإسلاميون، فإن هذا الوضع يصل دوما إلى طريق مسدود. ونظرا لأن التدهور الحاد للاقتصاد السوداني كان السبب الحقيقي وراء سقوط البشير، فلا بد أن يكون أردوغان قلقا بالفعل، وذلك، ببساطة، لأن مشروعه، الذي تخلى عن جميع الأخلاق والفضائل على مدار السنوات الماضية، واعتمد على أعضاء حزبه من ذوي المستوى التعليمي المتدني، يسير في طريق الفشل. ونتائج الانتخابات في إسطنبول، والتي تحولت إلى كابوس بالنسبة لأردوغان وأتباعه، دليل كاف على أوجه القصور داخل حزب العدالة والتنمية. وكما كتب الباحث التركي بينار ترمبلاي في جريدة "جيروزاليم بوست" فإن "حزب العدالة والتنمية، الذي يمثل إخوان تركيا أو جماعة الإخوان المسلمين، وضع استثمارات ضخمة في تغيير المنهج العلماني إلى منهج إسلامي. لكن الأمر أتى بنتائج عكسية". وأضاف "الآن أصبحت إسطنبول تعاني من تزايد أعداد الشباب الذين لا يملكون سوى مهارات قليلة أو معدومة لا تتناسب مع متطلبات سوق العمل. وتكافح النخب السياسية من أجل الترويج لقصصها الزائفة عن نضالها من أجل الفقراء وصعودها من الحضيض لمكانتها الحالية مع إضافة بعض الأخلاق الدينية لخطب ود الشباب. لكن الأجيال الجديدة سئمت التناقض الواضح بين الخطاب الإسلامي المفرط للحكومة ونمط الحياة المترف الذي يعيشه مسؤولوها". وتابع في مقاله "يتم استمالة قادة الجماعات الدينية المختلفة لدعم أردوغان علانية، لكنهم غير قادرين على إقناع الشباب بأن الإسلام السياسي مشروع قابل للاستمرار. وأصبح الإسلاميون، ولاسيما الشباب منهم، يشعرون بخيبة أمل واضحة". لذا، فإن الادعاء بأن أردوغان يشعر بالخوف بسبب تصاعد المعارضة الداخلية قد لا يفسر وضعه الحالي بالدقة، وإنما يجب أيضا وضع الهزات التي تزعزع الأنظمة الإسلامية بالمنطقة حاليا في الحسبان. ففي الخرطوم، يواجه نظراؤه مصيرا حالكا نظير سياساتهم الفاسدة. ياوز بيدار