القصائد الشعرية بمختلف أنواعها وضروبها دائماً ما تأتي مؤرخة للأزمان وموثقة للأحداث والمواقف، ومعبرة عن الأحاسيس والمشاعر، وتحوي بداخلها الكثير من المفردات التي تروي الظمأ وتبل العروق كلما نغوص في بحور الشعر ونتعمق في العاطفة والمحبة المتجسدة بداخله سواء أكانت للوطن أو عشق المرأة أو حب الأزمنة والأمكنة التي ترتبط بوجدان الكثيرين وتعلق بذاكرتهم وتسيطر على حواسهم، لذا نجد الكثير من القصائد خاصة الغنائية تناولت في متنها أسماء مدن وأحياء عريقة وعتيقة، حيث ظل عدد من الشعراء والفنانين منذ ثلاثينيات القرن الماضي يتغزلون في جغرافيا المكان وعبق الزمان معبرين عن مدى التصاقهم وارتباطهم بهذه الأمكنة. وفي السطور القادمة نستعرض بعضاً من تلك القصائد والأغاني التي نظمت في بعض المدن السودانية. { أذكر بقعة أم درمان العاصمة الوطنية (أم درمان) من أكثر المدن والعواصم السودانية التي نالت النصيب الأوفر في التوثيق الشعري، والوجود ضمن الأغاني، حيث مجدتها الكثير من القصائد تغني بها عمالقة الطرب، منها على سبيل المثال رائعة العميد "أحمد المصطفى" (أنا أم درمان.. أنا السودان)، وغنى الرباطابي (من أم در يا ربوع سودانا نحييك وأنت كل أمالنا)، وهناك عدد من الشعراء الذين طافوا عبر أشعارهم حول أحياء أم در، ونجد حي (المسالمة) قد تفوق على بقية الأحياء الأمدرمانية ونال اهتماماً مقدراً عند شعراء الحقيبة، وعلي رأسهم الشاعر الفذ "عبد الرحمن الريح" ومن الأغاني الشهيرة التي وثق فيها لأحياء أم درمان: (نافر بغني عليهو جاهل وقلبو قاسي.. وأنا قلبي خاضع ليهو لي في المسالمة غزال) و(ظبي المسالمة الفي الخمايل حالم) وفي حي القلعة كتب (بدور القلعة وجوهرا). وأنشد "خليل فرح" يعدد مآثر البقعة، وهو لا ينفك يلهج بلسان تطبع بذكر شوارعها وأحيائها، بقوله: أذكر بقعة أم درمان في السودان (فتيح) معروف ولسه (أب عنجة) خور وسروف (ود نوباوي) زول معروف باقي وديك مشارف (أبروف) ولأبي وف أيضاً موضع آخر في كلمات "خليل فرح": من (فتيح) للخور للمغالق من علايل (أب روف) للمزالق قدلة يا مولاي خافي حالق بالطريق الشاقي الترام ونجد الشاعر "محمد محمد خير" من خلال قصيدة واحدة طاف على معظم أحياء أم درمان حيث تقول: من ليل ملتخ بالكوابيس والسهر فجيت رؤاي قالدت سوق (الشجرة) و(أب روف) والبنات والزنكي سوق الناقة والناس الخدار وقطعت (حي البوستة) مرفوع الكلام ودمي ينبح ويندهك ويواصل في الوصف.. إلى أن يقول: صرخت يا جنة بلال عالجني يا عابدين شرف سامحني يا إستاد الهلال الليلة يا أم درمان بشوف كل المدن في توب سماحتك تنجهك زهت (الفتيحاب) بالشمس واتبسمت (بانت) على وش (أب كدوك) و(العرضة) غنت من مطامير الحقيبة الصادحة هم ما بشبهوك {مدن في ذاكرة الاغنية السودانية ولأن الانتماء للمكان روحياً قبل أن يكون جغرافياً، فقد برز عدد من الشعراء الذين ولدوا من صلب كثير من المدن السودانية ترعرعوا وشبوا فيها إلى أن شابوا، وهم أكثر ولعاً وشغفاً بحبها، فحازت على مساحة وافرة من خارطة أشعارهم وإليكم بعض هذه النماذج. كسلا جنة الإشراق هذه المدينة التحفة بطبيعتها الأخاذة أثرت العديد من الشعراء فأجادوا في وصفها وأبدع "الحلنقي" في رائعته: (حبيت عشانك كسلا خليت دياري عشانك، وعشقت أرض التاكا الشاربة من ريحانا).. وغنى لها العندليب الأسمر "زيدان إبراهيم" ب(فراش القاش) وردد في عشقها الفتان "كمال ترباس": (هلا يا هلا وين كسلا.. بدور أصلا أزور جبلا وأقابل أهلا وأضوق عسلا)، ومن داخلها غنى مطرب الشرق "محمد البدري": (كاسلا كاسلا أنا قلبي سافرا). أما حاضرة الجزيرة الخضراء (مدني السني) فقد سكب فيها الأدباء درر أشعارهم فخلدها أبناؤها من نجوم الطرب، فتغنى "ود اللمين" (مالو أعياه النضال بدني وروحي ليه مشتهية ود مدني)، وردد ثنائي الجزيرة (من أرض المحنة من قلب الجزيرة)، وملكة الغناء الاستعراضي "حنان بلوبلو" خصتها (يا بوي يا السني.. السني طمني.. بجافي ليك أهلي وأسكن معاك مدني.. مدني الجمال). وفي حب عطبرة عاصمة الحديد والنار تغنت "البلابل" (قطار الشوق متين ترحل تودينا... نزور بلداً حنان أهلها ترسى هناك ترسينا نسالم عطبرة الحلوة)، وارتباط المدينة بالسكة الحديد واضح في أغنية (عقد الجلاد): (دي محطة الوطن الكبير.. كانت قديم متقدرة). ورحل "صلاح الأمير" الذي أبدع في أغنية وصف محبوبته سواكن (يا سواكن أنا قلبي ساكن) وغنى "النور الجيلاني" لجوبا (يا مسافر جوبا.. جوبا يييي) و"محمود عبد العزيز" (لمدينة جوبا أجمل مدينة طيارة قومي سريع ودينا)، وبورتسودان ثغر السودان الباسم غنى لها ابنها "حيدر بورتسودان": (عروس البحر يا حورية.. يا بورتسودان يا حنية..)، كما أبدع الفنان "مصطفى مضوي" في وصف شندي وتجول في حواريها فغنى: (يلا شندي نزور الحبايب). ومدينة بارا واحدة من المدن الجميلة التي ترقد في شمال كردفان غنى لها "عبد القادر سالم" (ليمون بارا).. ومدينة الأبيض (عروس الرمال) غنى لها "ود البكري": (الأبيض عروس الرمال). { فاتنة شعراء الحقيبة تألم "سرور" كثيراً لسفر الفتاة (مليم) وهي حسب عدد من الباحثين والكتاب فاتنة شعراء الحقيبة في ذلك الوقت، وعندما شاهدها تتجه مع أسرتها نحو الأسكلا وهو مرسى السفن في ذلك الوقت، الذي يقع شمال منطقة فندق (الهيلتون) الحالي طلب من قبطان السفينة مده بأسماء المدن التي تمر بها الباخرة، ثم أخذها وأسرع الخطى نحو "ود الرضي" الذي كان يجلس مع الشاعر "أحمد حسين العمرابي" في دكانه بالخرطوم، وطلب منه تأليف أغنية بهذه المناسبة، وعلى الفور جادت قريحة "ود الرضي" بأغنية من (الأسكلا وحلا)، وكان الوقت منتصف النهار فحفظها "سرور" وتغنى بها ليلاً. هذا ملخص (القصيدة الجغرافيا) أو كما وصفها "مبارك المغربي" لمرورها عبر حوالي عشرين مدينة سودانية من الشمال إلى الجنوب عكس مجرى النيل وتبدأ: من (الأسكلا) وحل قام من البلد ولى دمعي للثياب بلّ إلى قوله صب يا دمعي لا تكون جاف ويا قلبي البقيت رجاف البدر الخفا الانجاف .. اليوم شرف (الرجاف) . و(الرجاف) كانت هي المحطة الأخيرة التي ترسو فيها البواخر آنذاك.