ونحن في شهر رمضان المعظم الذي تصفد فيه الشياطين وتقبل توبة العبد يمر عليَّ شريط من الذكريات وأنا أنظر لمصر أم الدنيا وتلك الأيام الخاليات عندما كانت مصر تنعم بالأمن وبالطمأنينة والاستقرار.. عندما كانت مصر تهفوا إليها القلوب لأداء صيام رمضان فيها لما لها من نفحات إيمانية بالحسين والأزهر الشريف، كان معظم العرب يهربون من صيف بلادهم الحارق إلى جو مصر المعتدل خلال هذا الشهر الكريم. مصر كانت قبلة لكل العرب والأوروبيين.. تحس فيها بالأمن والأمان وكأنك في وطنك.. تخرج في أي ساعة من الوقت لا تعترضك عصابات النهب التي ظهرت بعد ثورة الربيع العربي وبعد ثورة الثلاثين من يونية. في شهر رمضان المعظم أذكر ونحن مازلنا في سنيِّ الدراسة الأولى كنا مجموعة من الطلبة تجمعنا شقة واحدة، ولكن مناطق من مختلفة من السودان ففي شارع مصر والسودان كانت مجموعة من الزملاء بطب عين شمس "موسى عمر محجوب" و"عبد الله أحمد المحجوب" و"تاج الأصفياء حسين" و"حموري" و"كمال شريف" و"الفاتح البحر" و"فيصل بشرى" بتربية عين شمس و"عماد الخير الشفيع" بطب عين شمس و"عبد المنعم سلامة" وشخصي كنا مجموعة متجانسة كان الرابط بيننا مدينة أم درمان العريقة. رغم أننا لم نكن من المتعصبين للمدن بقدر ما كنا متعصبين للوطن الواحد، بخلاف بعض الزملاء الذين اتخذوا من مناطقهم روابط لتجمعاتهم ولكننا كنا زملاء للجميع. مصر التي صادفنا فيها عدة رمضانات لم نحس أننا بعيدون عن الأهل، كان الآبري الأبيض والأحمر متوفراً لدينا.. الجميع يشارك في صناعة الطعام، ومصر كانت من أرخص بلاد الدنيا في رمضان وغيره، كانت الأوطة (الطماطم) لا يتجاوز سعرها الخمسة والعشرين قرشاً وإذا ارتفع سعرها يصل إلى الجنيه، ليس كما نراها الآن ترتفع الأسعار كالصاروخ من خمسة جنيهات إلى ثلاثين جنيهاً. عندما أنظر إلى مصر الآن وما أصابها بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير وبعد استلام الإخوان للسلطة والمؤامرة التي حيكت عنهم بعد ذلك مما أدى إلى تفجر الوضع السياسي ولا أحد ينجو مما يجري الآن بها. إن نكهة رمضان في جمهورية مصر العربية تختلف تماماً عن مدن وعواصم الدنيا.. فإذا ذهبت إلى خان الخليلي عالم آخر وإذا دخلت الحسين أيضاً عالم آخر وإذا سرت في الطرقات لم تجد من يعترضك أو يحاول استغلالك أو نهب نقودك.. إننا نحزن لما يجري الآن على أم الدنيا، فأبناؤها يريدون أن يخربوها فبعد أن كانت أماً لكل الدنيا تضيع هذه الأم بسبب المؤامرات. مازلت أتذكر تلك الأيام النضرة التي عشناها وتلك الليالي الرمضانية التي أقمناها مع إخوة أفاضل.. فأذكر صادفت رمضان داخل مدينة البعوث الإسلامية أيضاً مع إخوة أفاضل "محمد آدم إبراهيم" و"إبراهيم أبو حسبو" و"كمال محمد عثمان" و"عبد الباقي محمد أحمد كير" و"عبده اليمني" والصادق محمد أحمد سلمان" و"صلاح عبد العزيز" و"مجتبى" وزملاء من مدن وولايات السودان المختلفة بجانب بعض الطلبة الأجانب. في مصر لا تحس أنك صائم، الجميع ينام بعد الفجر ويستيقظون ولم يتبق للإفطار إلا دقائق، نادر ما يطلع الناس في النهار.. رغم أن مصر أقل الدول استخداماً للمراوح والمكيفات. يعتصرني الألم وأنا أشاهد الآن ما يجري في مصر من قتل وضرب لأبناء الوطن الواحد.. كانت الناس ينتظرون شهر رمضان بفارغ الصبر لما فيه من متعة وبرامج.. الآن ضاعت ملامح هذا الشهر والكل يتربص بالآخر نسأل الله أن يخرج من بين هذه الأمة رجل رشيد يحاول إعادة الوضع إلى أيام المحروسة الطيبة أيام الأمن والسلام والاستقرار.