أنجبت الصحراء الكثير من الشعراء الذين تغنوا لها، ونسجوا من رمالها أفكارهم وخيالاتهم فتحولت الصحراء إلى جنان خضراء وارفة الظلال تكاد أن تنطق من روعتها ودفئها. من هؤلاء الذين حفظتهم الذاكرة الشعرية الشاعر "ذو الرمة" الذي استنطق الصحراء من خلال شعره، وجعلها شرفة مطلة على المكنون الإنساني وهو يعانق بوحه في صفاء ونقاء. لكن "ذا الرمة" لم يكتسب لقب شاعر الصحراء فقط، وإنما هو شاعر الحب أيضاً، حيث جعل المرأة هي بطلة أشعاره الصحراوية تكتسب قسماتها وصفاتها منها، لذلك فهي امرأة بمقاييس شديدة الخصوصية والتفرد تمنح الصحراء رحيقها وتمنحها الصحراء بريقها.. حالة من التبادل المحسوس بين الاثنين تتماهى بحس شاعر مرهف ك"ذي الرمة" الذي عاش حياة قصيرة كأنها الحلم الذي تشرق عليه الشمس فيتوارى في زخم ما مضى، لم يعش كثيراً لتؤلف مخيلته أشعار الحب والصحراء ورغم ذلك يعدّونه أهم شاعر في العصر الأموي، أدرك معنى الشعر إدراكاً صحيحاً وواعياً فلم يهمش دوره كشاعر، ولم يسطع من شعره كشعر ينبغي أن يجترح المكان والزمان وينبش كل المفردات التي تكرس لحضوره. لقد منح "ذو الرمة" (البداوة) طعماً جديداً من خلال شعره الرصين وهو يتأمل صفحة الصحراء تتوسطها امرأة خياله بنورها وبهائها، ولم تؤثر تنشئته البائسة والحزينة على تدفقه وحيويته، بل جعلته أكثر صلابة في مواجهة مصيره الذي حرمه من طفولة سعيدة بعد أن مات أبوه وهو صغير فكفله أخوه الأكبر، بينما عكفت والدته على رعايته رغم ضيق ذات يدها وبؤس حالها، لا شيء تستمد منه قوتها سوى صلابة الصحراء.. تلك الروح التي وهبتها لابنها الشاعر فيما بعد. ولأن الحب الحقيقي هو الذي يصنع الشاعر الحقيقي، فقد كان "ذو الرمة" على موعد مع الشعر في مقتبل شبابه، وبينما هو يسير وإخوته في الصحراء أصابه العطش فطلب من امرأة عجوز أن تسقيهم الماء ففعلت وجاءت "مية" الفتاة أسيلة الخد شماء الأنف نحيلة الوجه تصب لهم الماء، فما أن رآها "ذو الرمة" حتى تعلق بها ومن يومها وهو يكتب الشعر ل"مية" و(الصحراء).. تلك الصحراء التي جمعته بالمحبوبة فكان احتفاؤه بها وب"مية". لكن هذا الحب الذي كان من أول نظرة لم تستمر سفينته في الإبحار، إذ سرعان ما اشتدت العواصف والرياح وسرعان ما عاكسه التيار، فوجد "ذو الرمة" الحلم مستحيلاً لأنه باختصار لا يملك مهر المحبوبة، فتسوء حالته ويندب حظه وتزداد قصائده حرارة ولوعة. هذا بدوره أحدث تحولاً في حياة شاعر الحب والصحراء، الذي ترك البادية وراح يسعى في آفاق الأرض البعيدة يكتب في مختلف موضوعات الشعر الأخرى، التي تأتي له بمال يعينه على الحياة. لكنه يقع في حب أخرى وأخرى، وتظل جذوة حبه للصحراء باقية يروح عنها ويجيء، لكنها تظل في ذاكرته إلى جانب صورة المحبوبة التي ما عادت (واحدة)، لكن يكفي أن قلبه ما زال يعرف الحب. "ذو الرمة" شاعر من طراز رفيع وقراءة شعره برؤية معاصرة تحمل الكثير من العمق لزماننا هذا، حيث الرهان يفتح الفضاء للمكان وخصوصيته، والحب وفصوله، وتبقى ضرورة الدراسة المتأنية لهذا الشاعر مشروطة بمعرفة موثقة عنه، خاصة وأن هناك تضارباً كبيراً في التاريخ لحياته وشعره، فيما يبقى الاتفاق حول أنه بالفعل شاعر الحب والصحراء. يقول "ذو الرمة": لَقَد جَشَأَت نَفسي عَشيَّةَ مُشرِفٍ وَيَومَ لِوى حُزوى فَقُلتُ لَها صَبرا نَحِنُّ إِلى مَيٍّ كَما حَنَّ نازِعٌ دَعاهُ الهَوى فَارتادَ مِن قَيدِهِ قَصرا فَقُلتُ اِربَعا يا صاحِبَيَّ بِدِمنَة بِذي الرِمثِ قَد أَقوَت مَنازِلُها عَصرا أَرَشَّت بِها عَيناكَ حَتّى كَأَنَّما تَحُلّانِ مِن سَفح الدُموعِ بِها نَذرا وَلا مَيَّ إِلا أَن تَزورَ بِمُشرِفٍ أَو الزُرقِ مِن أَطلالِها دِمَناً قَفرا تَعَفَّت لِتهتانِ الشِتاءِ وَهَوَّشَت بِها نآئِجاتُ الصَيفِ شَرقيَّةً كُدرا فَما ظَبيَةٌ تَرعى مَساقِطَ رَملَةٍ كَسا الواكِفُ الغادي لَها وَرَقاً نَضرا تِلاعاً هَراقَت عِندَ حَوضى وَقابَلَت مِنَ الحَبلِ ذي الأَدعاصِ آمِلَةً عُفرا