أسدل الليل عباءته السوداء على الكون فاستجاب الجميع.. ارتخت الأجساد وانتظمت الأنفاس في نوم عميق.. مسكين ذلك الذي لا يغمض له جفن ليلاً.. استثناء هو.. فاقد لنعمة النوم والراحة.. يظل ساهراً متقلباً يحاور فراشه متوسلاً لسلطان النوم أن يغشاه.. ولكن هيهات.. فيستجدي طلوع النهار ويستعجله فيخيب رجاؤه لأن تعاقب الليل والنهار منظومة دقيقة الحسابات لا تعرف التذبذب والانفلات.. السكون موحش مخيف.. والصمت ثقيل إلا من عواء كلب بعيد يتسلق نباحه حبال الصدى على استحياء شديد.. الكل نيام ما عدا أنا, وكنت قد جئت مع زوجي "الفاتح" إلى منزل أهله لنشارك في زواج شقيقته الصغرى "تهاني".. أعددت حقيبة ملابسي وزوجي ومن ثم حقيبة "جدو" صغيري الذي يبلغ من العمر عامين، كما اخترت هدية حلوة للعروس، وقررت أن اندمج مع أهل زوجي، فهذه فرصة لا تتكرر، إلا أنهم قابلوني ببرودهم المعهود.. عندها سرعان ما انكمشت مشاعري وها هي الوحشة في هذه الدار تسلمني لليل الطويل.. وأخيراً.. وعندما أطل الصباح أتى "عمار" شقيق زوجي.. جلس معي وطفلي داخل الغرفة التي تسرب كل من بداخلها.. وعلى صوت نداء أمه وضع "عمار" "جدو" بجواري وخرج هو الآخر, إلا أن "جدو" أسرع خلفه وعندما غاب عن نظره انطلق في بكاء مر.. حقيقة غضبت.. أصلحت ثوبي ولحقت بولدي، بل سبقني له ندائي: (جدو.. جدو تعال).. تساءلت إحداهن: (دا ود منو؟؟) فجاء رد جدته: (دا ود الغريبة) فلم أجبها.. ومرة أخرى ناديت على صغيري: (جدو.. جدو).. هذه المرة تحدثت عمته مستنكرة: (جدو؟؟ لما ما عاجبك اسم حامد أبوي سميتي بيه ولدك ليه؟؟).. استغربت كثيراً لردة فعلها العنيفة وقررت أن أغادر الدار، فكيف سأقضي هذه الأيام بينهم وأنا على هذا الصفيح الساخن من المعاملة الجافة المتعمدة؟ ولكني خاطبت نفسي: (فوتي المخطط ده يا وسام عشان خاطر الفاتح) الذي عاد محملاً بمستلزمات العقد وناداني قائلاً: (وسام جهزيها).. عندها أحسست برد اعتباري، بينما غادر هو لمتابعة إشرافه على المناسبة.. مسؤول هو و(حنين) جداً.. يحب أمه وإخوانه كثيراً.. ساعدتني بعض النسوة والشابات وسرعان ما أنجزنا مهمتنا وتفرقن من حولي إلا امرأة مسنة عرفت منها أنها إحدى الجارات, وفتاة صغيرة حلوة القسمات كانت هي الوحيدة التي رحبت بي وهي الوحيدة التي حملت ولدى فلاذ بها، وما أن غادرت الصبية الغرفة حاملة معها "جدو" حتى جلست المرأة المسنة على نفس سرييى وهمست: (البنية الشايلة ولدك دي سهى بت المرحومة خالة الفاتح.. أم الفاتح ربتها وعلمتها ووعدت أمها – أيام مرضها – إنو الفاتح ولدها حيتزوج البنية عشان تطمئن عليها).. قلت: (لكن البت دي صغيرة) فاسترسلت المرأة كأنها لم تسمعني: (وده كان شرط أم الفاتح ليهو عشان توافق على زواجه منك, إنو لازم برضو يتزوج سهى لأنها وعدت المرحومة أختها).. وحملت المرأة المسنة بقايا ما تبقي من الفاكهة وعلب الحلوى الفارغة وغادرت الغرفة.. بسرعة البرق رجعت بذاكرتي ثلاثة أعوام إلى الوراء, عندما حدثني "الفاتح" برغبته في الزواج مني.. إنه أستاذ مساعد بجامعتي.. محبوب وقوي الشخصية, فرحبت بطلبه وحدثت صديقتي وجارتي "تماضر" بالخبر التي نقلت بدورها الخبر إلى والدتها خالتي "ليلى" المرأة التي أحبها كثيراً فما كان منها إلا أن جاءت إلى والدتي تطلبني لابنها "فتح العليم".. عندها أخبرت أمي عن أستاذي ورغبته في التقدم لخطبتي، وجاء رد أمي أن "فتح العليم" يناسبني أكثر فنحن نعرفه وأسرته كما أنه صديق أخي "مصطفى".. أخبرت أمي أن كل ما ذكرته صحيح، ولكن أنا موافقة على طلب "الفاتح".. تحدث معي شقيقي "مصطفى" طويلاً ولما لم يستطع إقناعي صرخ في وجهي قائلاً: (أنسي موضوع أستاذك ده) فسألته: (وإنت بي ياتو حق بتقول لي كده؟؟) فأجابني بصفعة قوية.. حقيقة باغتتني فبكيت في غبن، وعلى صوت بكائي جاء والدي الذي زجر "مصطفى" وحذره: (حذارك تاني تمد يدك على بتي, ثم تعال هنا صاحبك ده كان وين من زمان, ليه ما اتقدم ليها من بدري ما نحنا جيران بي عمرها.. رد عليّ.. الحركة شنو هسع؟؟ بتى مخيرة تحدد العايزاه يكون شريك حياتها).. حاول "مصطفى" أن يعتذر عن قسوته معي، إلا أنني رفضت اعتذاره، بل إن موقفه هذا جعلني أصرف النظر تماماً عن فكرة الارتباط بصديقه.. شقيقاتي شرحن في هدوء ضرورة إعادة النظر في قراري فأسرة "فتح العليم" كلها تريدني ولكني قلتها.. (لا) كبيرة وحاسمة.. طلب "الفاتح" مقابلة والدي، وسعيدة أنا زففت الخبر إلى أمي.. وبعد اللقاء الأول اطمأن والدي وطلب من "الفاتح" أن يأتي بأهله، فالزواج تعارف أُسري وارتباط مقدس سرعة الإعلان فيه مطلوبة.. ولكن تمهل "الفاتح" شهوراً، حاصرتني خلالها نظرات أمي وحديث "مصطفى".. ترددت كثيراً قبل أن أتحدث إلى "الفاتح" الذي تاهت عنه الكلمات وظل شارداً.. فجن جنوني ماذا هناك؟؟ وتحدث أخيراً: (وسام في مشكلة محتاجة مننا لشوية صبر) فقلت له: (مشكلة شنو؟؟) وعرفت منه أن أمه لا تبارك زواجه مني لأنها تريده لابنة شقيقتها المتوفاة.. بلا تردد أخبرت أمي فقالت بسعادة بائنة: (مبروووك عليهو بت خالتو) وأضافت: (وإنت مبروك عليك فتح العليم)، إلا أنني رجوت أمي أن تحتفظ بهذا الخبر وتحت إصراري كتمته.. الأيام تمضي بلا جديد، واهتزت ثقتي في "الفاتح"، وبدأت أحاسبه، ولأول مره بدأت أفكر في طلب جارنا "فتح العليم".. إنه شاب ناجح.. أهله يرحبون بهذا الزواج بدليل طلب والدته لي بمجرد أن علمت أن هناك آخر.. واطل وجه خالتي "ليلى" الصبوح وكثر حضور "تماضر" إلى دارنا من جديد ولكن برغم كل ما حدث ما هان عليّ "الفاتح".. لماذا لا أنتظره، وقد كان، حتى أخبرني بأن أسرته ستزورنا اليوم.. كان سعيداً سألته بدهشة: (أهلك عايزين يجونا الليلة) رد: (أيوه يا وسام, كدي هسع خلي التفاصيل أنا كل البيهمني إنو أمي وأخواتي يجوا يطلبوا يدك الليلة).. أخبرت أمي التي عاتبتني قائلة: (قالوا دايرين يجو الليلة, مالم يعني ما بيعرفوا الأصول ولا شنو؟؟ ما لازم يدونا فرصة عشان نجهز حالنا ونستقبلهم) وصمتت قليلاً لتقول: (لكن صبرك عليّ حاعاملهم بنفس طريقتهم) وانقبض قلبي فأية بداية هذه!! جهزت أمي ما أسعفها الوقت بتحضيره وطلبت مني أن أبقى بغرفتي.. خالتي "ليلى" كانت مع أمي في استقبال الضيوف الذين حضروا في تمام السابعة والنصف كما قال "الفاتح" إلا أن قصر الوقت الذي قضته أمه وأختاه وغادرن بيّن لي أن خوفي كان في محله، وتأكد ظني عندما خرجت من غرفتي، فالضيافة التي قُدمت لهن ظلت في مكانها حتى أكواب العصير ظلت على حالها إلا من رشفات معدودة من كوبين أما الثالث فقد ظل ممتلئاً، في إشارة واضحة وقوية لرفض هذا التعارف ناهيك عن الزواج.. وكانت بعض الهدايا ترقد على طرف المنضدة، وكأن من وضعتها قصدت أن تكون على هامشها.. رمقتني أمي بغضب شديد قائلة: (الناس ديل رافضين إنك تكوني زوجة لابنهم وقالوها بكل اللغات) ثم أمسكت بكتفي مواصلة حديثها: (وسام النسوان ديل ما جو عشان يطلبوا إيدك ديل حتى ما سألن عنك ولا طلبن يشوفوك يا بتي) قالتها بحزن شديد: (وشوفي) وأشارت أمي للضيافة (البائرة).. غطيت وجهي بيدي وبكيت طويلاً.. رويداً رويداً هدأت أمي, خاطبتني قائلة: (وسام إنت لسه على البر, أنسي الأستاذ ده.. أهله ما عايزين تكوني زوجته واتذكري إنو في ناس تانيين بيتمنوا إنك تكوني زوجة ابنهم).. عندها شُرقت بدموعي وتمنيت لو لم تكن خالتي "ليلى" موجودة وشهدت ما حدث، إلا أنها وكأنها قرأت ما يجول برأسي فطيبت خاطري وخاطبت أمي: (خليها يا هدى, المهم عندنا إنو هي وأستاذ الفاتح متفقين وولدي فعلاً اتأخر في طلبها).. بعد خروج خالتي "ليلى" قالت أمي جملة واحدة: (إنت ما حترتاحي مع النسوان ديل) وكررتها: (أيوه ما حترتاحى).. قضيت ليله طويلة وأنا غارقة في الخوف والندم والشك.. وفي صبيحة اليوم التالي قابلني "الفاتح" سعيداً.. سردت عليه ما بدر من أمه وأختيه, طمأنني قائلاً: (اتأكدي يا وسام إنو اختياري ليك ما جاء من فراغ وأنا قادر أحمي الاختيار ده).. وتم زواجنا ولكن بفرحة ناقصة, سكنت مع أسرتي.. قالها والدي: (أنا عايز اطمئن عليك يا بتي).. لم يمانع "الفاتح"، بل سرعان ما بنى علاقة جميلة مع أسرتي.. حتى "مصطفى" شقيقي شهد بجدارة الرجل, وبمرور الأيام شهدت له أمي بأنه: (حنين وبالو طويل).. أما والدي فقد اتخذه ابناً له.. عند ولادتي ل"جدو" عاودني والده و"عمار" شقيقه، أما أمه وأختيه فقد حضرن في اليوم الثالث ولمدة خمس دقائق فقط ومددن إلى بأطراف باردة وتحيه مبتورة ثم غادرن. إذن فحديث الجارة المسنة صحيح وأن أمه ما زالت مصرة على زواجه من ابنة خالته، وأنها لم تأت إلى دارنا لطلب يدي إلا بعد أن وعدها "الفاتح" بتحقيق رغبتها في أن يتزوج من ابنة المرحومة شقيقتها.. وحقيقة دخلت دائرة الشك، فكل ما دار حولي يقول ذلك، بل ويؤكده.. جاءت "سهى" ب"جدو".. سألتني عن ملابسه فأشرت لها على حقيبته وتابعتها.. كانت تخرج الملابس الصغيرة الأنيقة بحرص شديد.. علقت قائلة: (ذوقك حلو شديد يا وسام) شكرتها.. وضعت "جدو" على السرير وبدأت في تغيير ملابسه وتمشيط شعره.. ولدهشتي لم يحتج ويحاول إبعاد المشط عن شعره حتى أنني علقت: (جدو ليه ما صرخت وعملت دوشة كل مرة البتعملها لمن نجي نسرحك).. وتساءلت ماذا تريد هذه الصبية المليحة؟ ظلت الأفكار تقتلني طوال وقت الحفل مع ملاحظتي لحرص "سهى" على البقاء بجواري أنا و"الفاتح" معظم الوقت.. حاولت أن أتظاهر بالسعادة ولكن ذلك كلفني مجهوداً جباراً وعندما انتهى الحفل كنت أوشك على الانفجار.. بدأ الحاضرون بالمغادرة.. اقتربت مني "سهى" قائلة: (حبوبة علوية كلمتك بالحكاية).. عرفت ماذا تقصد فأجبتها: (أيوه) فقالت: (إذن خليني أنا أكمل ليك باقيها).. سألتها شاردة: (هي عندها باقي؟)، ردت: (أيوه يا ستي.. إنت طبعاً عارفة إنو أنا وحيدة ويتيمة ولمن جابتني خالتي عشان أعيش معاها كان الفاتح هو العوضني عن فقدي باهتمامو بى ورعايته لي.. الفاتح يا وسام أخوي الما ولدته أمي, بصراحة أنا عارفة إنو خالتي عايزاه يتزوجني حتى هو ناقشني في الموضوع ده وقال لي إنو أخوي وسندي، لكن عمرو ما حيكون زوجي، وهو قال الكلام ده كتير لي خالتي.. معليش يا وسام ما تزعلي منها, هي عايزه تحميني وتطمئن عليّ بطريقتها, لكن الحقيقة الثابتة المؤكدة إنو أنا أخت الفاتح وإنت زوجته ويا ريت تقبلي أكون أختك إنت كمان).