نعم .. لا أحد يقف مع التخريب، ولا أحد يرضى بحرق ممتلكات عامة أو خاصة .. وهي ممارسات تحدث في العادة من أشخاص فرادى .. لا ينتمون للفئة الغالبة .. التي تمارس حقها في قول (لا). لكن مهلا، فمن قاموا بالتظاهر مؤخرا .. ليسوا مشاغبين أو شذّاذ آفاق، بل كانوا مواطنين كاملي الوطنية، خرجوا ممارسين حقا دستوريا، وكانوا على معرفة ودراية بأن الضر قد مسّهم، وأن ما من سبيل أمامهم سوى التعبير عن شكواهم بالتظاهر الذي أتاحته لهم القوانين وليس المؤتمر الوطني ! أسهل الأمور أمام السلطات، أن تصف المتظاهرين كلهم بأنهم مخربون، فتطلق يد البطش فيهم، عقابا جماعيا لهم بما ارتكبه بعض المتفلتين .. الذين لا يعرف أحد بالضبط لمن ينتمون !! أحد معارفي .. قال لي إنه لن يحضر مستقبلا أي مناسبة يقيمها المؤتمر الوطني أو رموزه، فلما سألته عن السبب قال إنه كان بين الحضور في احدى احتفالياتهم، فإذا به يتعرض لنشل محفظته وجهاز الموبايل الذي يخصه ! الرجل حكم على كل الحاضرين حكما ظالما، فوجود لص أو بضعة لصوص مندسين وسط الحشد الحزبي .. لا يعني أن ذلك الحشد كله من ذات الشاكلة (!)، ولو كانت الأوصاف ترمى جزافا هكذا .. لما دخل شخص لمسجد عقب سرقة نعليه، ولما أمّ أحد مناسبة حكومية أو حزبية .. تعرض فيها لتشل محفظته أو هاتفه الجوال ! المثل ذاته ينطبق على من تظاهروا .. أولئك الذين لم يحملوا سلاحا كما حمله آخرون، ولم يلوذوا بمناطق (محررة) يناوشون منها الحكومة ويقلقون نومها ليل نهار. هؤلاء لم يختاروا اللجوء للغير، ولم يطالبوا العالم بالتدخل لرفع ما حاق بهم من ظلم .. ولم يعتدوا في مناسبة عامة أو خاصة على الرموز السياسية والحكومية التي فرضت عليهم حياة الضنك بسياساتها العرجاء الكسيحة . كل ما فعله هؤلاء كان التظاهر، والتعبير عن الغضب السلمي بما حاق بهم من ضيم، لكن (البلاء يعم)، فتفلتات محدودة يمكن أن تحدث دون تظاهر .. أتاحت الفرصة لجعل الكل في قفص الاتهام، ووصم الكل بأنهم مشاغبون وشذاذ آفاق !! ازدواجية الخطاب الرسمي .. هي إحدى آفات النظام التي تقوده للهلاك، فالإقرار بحق الناس في التظاهر، والذي حرص أهل السلطة على المجاهرة به، ترافق مع بطش وعدوان قاس على أولئك المتظاهرين، ما يعني أن ما يتم إعلانه شيء، وما يتم ممارسته فعليا شيء آخر. أرقى أنواع الاحتجاج، والتعبير عن الرأي، هي التظاهر العلني، والتعبير الجهري عن الغضب والاستنكار، فإذا لم يتح للناس التعبير بما أتاحته لهم الدساتير والقوانين، فليس أمامهم سوى اللجوء لوسائل أخرى .. لم يفكروا بانتهاجها يوما ما، ولم تدخل في أدبيات تعاملهم مع السلطة .. حتى الآن ! ملاحظة أخيرة، هي أن من خرجوا ويخرجون للتظاهر .. ليسوا سوى جزء صغير جدا ممن يحسون بالظلم، وتغلي دواخلهم غضبا دون أن يترجموا ذلك انفجارا، فالصمت لا يدل على الرضا مما يجري .. بل هو المؤشر الأخطرعلى أنه هدوء قد يكون مقدمة للعواصف، وذاك ما يتوجب توخيه والحذر منه ! افهموها .. يرحمكم الله !