المريخ في لقاء الثأر أمام إنتر نواكشوط    قباني يقود المقدمة الحمراء    المريخ يفتقد خدمات الثنائي أمام الانتر    ضربات جوية ليلية مباغتة على مطار نيالا وأهداف أخرى داخل المدينة    مليشيا الدعم السريع هي مليشيا إرهابية من أعلى قيادتها حتى آخر جندي    الأقمار الصناعية تكشف مواقع جديدة بمطار نيالا للتحكم بالمسيرات ومخابئ لمشغلي المُسيّرات    عزمي عبد الرازق يكتب: هل نحنُ بحاجة إلى سيادة بحرية؟    فاز بهدفين .. أهلي جدة يصنع التاريخ ويتوج بطلًا لنخبة آسيا    بتعادل جنوني.. لايبزيج يؤجل إعلان تتويج بايرن ميونخ    منظمة حقوقية: الدعم السريع تقتل 300 مدني في النهود بينهم نساء وأطفال وتمنع المواطنين من النزوح وتنهب الأسواق ومخازن الأدوية والمستشفى    السودان يقدم مرافعته الشفوية امام محكمة العدل الدولية    وزير الثقافة والإعلام يُبشر بفرح الشعب وانتصار إرادة الأمة    عقب ظهور نتيجة الشهادة السودانية: والي ولاية الجزيرة يؤكد التزام الحكومة بدعم التعليم    هل هدّد أنشيلوتي البرازيل رفضاً لتسريبات "محرجة" لريال مدريد؟    "من الجنسيتين البنجلاديشية والسودانية" .. القبض على (5) مقيمين في خميس مشيط لارتكابهم عمليات نصب واحتيال – صورة    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



معاوية يس: نداء لضباطنا للانحياز للشعب... وما "الجمعة" لناظره ببعيد
نشر في الراكوبة يوم 10 - 07 - 2012

كم أفرحني- مثل ملايين من أبناء وطني في الداخل والخارج- النجاح الكبير الذي حققته احتجاجات "جمعة شذاذ الآفاق". وبدا لي أن أحزابنا الكبيرة لا تريد هذه المرة أن تكون الجماهير متقدمة عليها في غضبتها وتحركاتها وتظاهراتها. وهي محمدة لتلك الأحزاب التي أعاقت حركة الثورة والتغيير في السودان كثيراً، من خلال مواقف زعاماتها الحربائية، وتلهفها لاقتطاع فتات كعكة الحكم عبر ما يجود به نظام اللصوص والقتلة بما يسميه "المشاركة". ومن عجب أن أحد القادة التاريخيين لأحد تلك الأحزاب يشارك في الاحتجاجات التي يندد بها نجله المشارك في الحكومة باعتبارها تخريباً للممتلكات العامة!
ومع أنني لا مشكلة لي مع الأحزاب- عتيقة كانت أم حديثة- لأنني لم أنتم قط إلى أي منها، ولم أر لدى أيٍّ منها برنامجاً تفصيلياً لحكم السودان ومستقبله، إلا أنها لا تستطيع أن تدعي خلال السنوات الأخيرة أنها تقف وراء تأجيج الغضب وحض الشبان والشابات على الانتفاض ضد النظام، والخروج في تظاهرات هادرة. ويمكن القطع والجزم بأن الطلاب والشباب والعوام هم الذين أذكوا فتيل الثورة في الآونة الأخيرة. وكانت قرارات ما يسمى التقشف الاقتصادي الشرارة التي أشعلت التظاهرات. وكان التواصل بين أولادنا وبناتنا من خلال مواقع "تويتر" و"فيسبوك" وما إليهما من مواقع التواصل الاجتماعي هو الذي أدى إلى جمع الحشود، وحشد الطاقات، من أجل "جمعة لحس الكوع" و"جمعة شذاذ الآفاق". وستكون كل جمعة مقبلة يوماً ساخناً ولتهباً لنظام المحفل الخماسي الذي يحتقر عقول السودانيين كباراً وصغاراً، ويعتقد أن كل فتى وفتاة في شوارع مدن العاصمة المثلثة يمكن شراء ذممهم بالمال الحرام، وتخويفهم بالضرب والتعذيب والاعتقال، وتهديدهم ب "بيوت الأشباح"، بالتصفية الجسدية والتغييب. ولا يدرك رجال أمن النظام أن منطق شبابنا اليوم هو: إننا ميتون ميتون... ببنادق النظام أو بتجويعه وحرمانه لنا من الوظائف وممارسة العمل السياسي الحر، فهل سيضيرنا أن نموت على أيدي الجلادين في مقار الأجهزة الأمنية، أو في صحون المساجد الجوامع، أو الأزقة التي نركض فيها هرباً من الغاز المسيل للدموع؟
لن تحرفنا ادعاءات تأجيج الثورة لنخوض في معركة جانبية لا طائل منها. لكن يبقى مشروعاً خوف ملايين السودانيين من حزب الغالبية الصامتة من أن تمارس "حليمة الحزبية" عادتها القديمة في القفز إلى قطار الثورة، والاستيلاء عليها، وتصدر المرحلة الانتقالية، وهي منجزات ومكاسب تتحقق عادة بعرق المتظاهرين والمتظاهرات، وبدماء الشهداء. وهي ليست فرية نفتريها على تلك المنظومات، فقد تعرضت ثورة 21 أكتوبر 1964 للسرقة، ولفظت أنفاسها على أيدي العقيد جعفر محمد نميري في 25 مايو 1969. وتعرضت ثورة 6 ابريل 1985 للسرقة منذ يومها الأول، باستيلاء الضباط "الإسلاميين"عليها بقيادة عبد الرحمن سوار الذهب، ولفظت أنفاسها بانتخابات العام 1986 التي رسمت خريطة الطريق إليها الجبهة الإسلامية القومية التي تحولت بقدرة قادر إلى القوة الثالثة من حيث الوزن في الجمعية التأسيسية التي وأدها انقلاب الجبهة نفسها في 30 يونيو 1989.
بيد أن الحديث عن تلك المخاوف، لا يمنع من تثمين مشاركة الأحزاب ودورها في الانتفاضات والثورات، ولا يقلل من احترامنا لزعاماتها وأقطابها وقياداتها على المستويين الوسيط والصغير. لكنها مطالبة اليوم (وليس في 1985 ولا 1964) بأن تسارع بتهيئة حماية مسلحة للانتفاضة، أسوة بما حدث في ليبيا وما يحدث في سورية، وذلك لتشابه الأنظمة المتسلطة في السودان وسورية وليبيا، من حيث دمويتها، واستعداها لقتل أبناء الشعب وبناته من دون وازع ولا ضمير. والحق أن نظام عمر البشير يحتل قصب السبق على جميع الأنظمة العربية التي تعتبرها شعوب بلدانها متسلطة ودموية، إذ يكفيه أنه قتل 300 ألف سوداني في دارفور وحدها، وشرد أكثر من مليونين من سكانها إما إلى معسكرات اللجوء في تشاد، أو إلى معسكرات النزوح الداخلي. وهي تقديرات الأمم المتحدة التي لا يمكن أن نكذبها لنصدق زعم البشير ومصطفى عثمان إسماعيل أن عدد من قتلوهم بأيديهم هناك لا يتجاوز آلافاً عشرة. كما أن حفلة القتل عند هؤلاء الشريرين لا تتوقف عند منطقة بعينها، فهاهي مقاتلاتهم تقتل كل يوم النساء والأطفال والمدنيين الأبرياء في جبال النوبة والنيل الأزرق.
إن الثورة السودانية ضد نظام اللصوص والقتلة والفاسدين ليست مهمة يقوم بها سكان مدن العاصمة المثلثة وحدهم، بل هي ثورة يصنعها السودانيون في كل أرجاء السودان الذي يهدد النظام بتمزيقه. فحين يحتدم القتال ويتأكد لهم أنه لن يكتب لهم نصر في جبال النوبة والنيل الأزرق سيقبلون التفاوض بموجب أجندة قوى خارجية، ولن يكون أسهل لديهم من التخلص من مأزقهم سوى سلخ هاتين المنطقتين من السودان القديم، وهو ما سيحدث لدارفور التي يتخيلون أن إعطاءها حكماً ذاتياً فضفاضاَ أو حتى الاستقلال سيعطيهم فرصة لالتقاط أنفاسهم، وإعادة جمع شتات ميليشاتهم المسماة "الجيش السوداني"، للدفاع عن "مثلث حمدي"، وهو مثلث سيستبعد أفارقة السودان وزنجه ومسيحييه وأهله من ذوي المعتقدات الدينية المحلية والإفريقية. وسيواصلون سرقة موارد هذا المثلث كما يفعلون الآن، ولن يواجهون صعوبة في توفير التمويلات الإضافية: الجبايات المحلية والأتاوات التي ستفرض على المغتربين.
الثورة ليست في العاصمة وحدها. جميع مدن السودان ثائرة وراغبة في التغيير، ووفيها رجال ونساء وشباب مستعدون للجود بالنفس والمال ليتم إسقاط هذا النظام الغاشم. وعلى الرغم من وجود سياسيين ومهتمين بالسياسة، إلا ان الغالبية العظمى من شعبنا مزارعون ومهنيون وعمال وتكنوقراط يريدون أن تلتزم الدولة السودانية واجبها في توفير الاستقرار والأمن، وتهيئة بيئة عملية تتوافر فيها شروط العمل والإبداع والإخلاص للوطن، ولا يهمهم من يحكمهم، ولكن كيف يحكمون، وكيف يضمنون أن من سينتخبونهم للحكم لن يسرقوا، ولن يفرضوا أنفسهم على القانون، ولن ينتهكوا الدستور.
ثورة تشمل مدن السودان كلها، مثلما يحدث حالياً، بحاجة إلى بندقية تحميها. وهي ليست دعوة إلى إشاعة العنف، لكن نظام اللصوص والقتلة لن يتوقف عن استخدام الرصاص المطاطي والرصاص الحي والقنابل المسلة للدموع والهراوات، ولن يكف عن مطاردة أطفالنا وبناتنا ونسائنا ورجالنا ليزج بهم في "بيوت الأشباح"، ليتعرضوا لأبشع أصناف التعذيب. وهو أصلاً ليس لديه رهان إلا على القوة العسكرية، وآلة القمع التي يعتقد أن الشعب سيخشاها ليتركه خالداً مخلّداً في دفة سفينة القراصنة الذين لن يتركوا شيئاً في ثرواتنا الوطنية. ألا يحق لأطفالنا وأحفادنا أن يحلموا بأننا سنجعل لهم نصيباً من واردات النفط والذهب والقطن لصناع المستقبل الذي ننشده لأمتنا والذي ينشدونه لأنفسهم ودولتهم في حقب آتية؟ أليس لنا حق في أن نحلم بأن يخرج من بيننا أشخاص يديرون البلاد وثرواتها بمنتهى الطهر والنزاهة والأمانة؟ أليس من حقنا أن نحلم بحكام مثل آبائنا المؤسسين الذين مات من مات منهم في "بيوت الإيجار"، ومنهم من مات مديناً، ومنهم من تقاعد إلى بيت متواضع لا يساوي شيئاً مع القصور المتطاولة التي شيدها اللصوص والقتلة (مجمع "العارف بالله" حسن أحمد البشير في كافوري نموذجاً)؟
الحزبان الكبيران في السودان لهما تجارب سابقة في منازلة الأنظمة العسكرية، وحتى في مجابهة نظام عمر البشير، فلماذا لا يخرج مقاتلوها السابقون الأشداء الشجعان، حتى ولو من دون موافقة قادة حزبيهما، ليحملوا البنادق لحماية ثورة الشعب؟ هذا النظام أجبن من الدجاجة، ومن أول طلقة تواجه حراسه ومأجوريه سيولون الأدبار. أليست تلك هي عادة اللصوص يهربون حين يشعر صاحب الدار بوجوده؟ ألا يعرف اللصوص جيداً أن السودانيون يزفونهم حين يقبضون عليهم بال "مارش" الشعبي الخالد "يا هو يا هو"؟
وهي أيضاً مناسبة ليتوجه المرء بكلمة إلى أبنائنا الضباط البواسل في الشرطة والجيش والمنظومات العنقودية التي أنشأها النظام الفاسد، من شرطة أمنية وشرطة مجتمعية وغيرهما. وغايتنا في ذلك أن نبصّرهم بأنه قد حان أوان الانحياز إلى الشعب، فأنتم مظلومون أكثر منه، وأنتم تعملون في ظروف قاسية، تشمل النوبات المتواصلة، وإلغاء الإجازات، و"الستاند باي" الذي لا ينتهي، في مقابل دراهم لا تقيم أوداً، ولا توفر سوى قليل مما يحتاجه صغاركم وبناتكم ونساؤكم. هؤلاء اللصوص الأشرار يستخدمونكم أكباش فداء، ودروعاً بشرية في مواجهة أهليكم وأحبابكم وأطفالكم. الله يعلم ونحن نعلم وكل عقلاء السودان وذوي البصيرة يعلمون أنكم لستم أذيالاً لهؤلاء القتلة، ولستم منتمين إلى دينهم "المُسيّس"، ولستم محترفين مثلهم للكذب والتذاكي على الآخرين واستغفال الآمنين البسطاء. لكنكم إنما تمتثلون للأوامر حتى تتوافر لقمة العيش. هل يجوز أن تأتي لقمة العيش بعد 23 عاماً بهذا الذل والمهانة، لتقتلوا إخوانكم وأبناءكم بأياديكم حتى ينام الدكتور نافع ومحمد عطا المولى ومصطفى عثمان وعمر البشير وعبد الرحيم محمد حسين ملء جفونهم؟! لديكم الآن أعظم فرصة بعدما قال الشارع في بورتسودان وعطبرة ومروي والخرطوم وأم درمان والأبيض وسنار والخرطوم بحري وكوستي وتندلتي كلمته وهتف بملء حناجره "الشعب يريد إسقاط النظام"، وبعد أن تحولت كل صلاة جمعة إلى معارك للقتال مع خفر النظام. إن الثورة ماضية، بإرادة الشعب ومسانده أبنائه في المغتربات والمهاجر وبلاد الشتات. صحيح أن عدم إعلانكم عصيان الأوامر والانحياز لأبنائكم وبناتكم يمكن أن يؤخر الانتصار، لكن الجماهير عاقدة العزم عليه، مهما خذّل المخذِّلون، ومهما تلاعبت أجهزة إعلام النظام بالحقيقة، ومها تشدّق حلاقيم المؤتمر الوطني بأكاذيبهم وإساءاتهم. أعلنوا انحيازكم الآن لتكونوا نواة الجيش والشرطة في دولة مدنية ديمقراطية حرة، يحكمها الدستور والقانون والأخلاق والضمير والوازع الديني الصادق. إننا- زملائي الكُتّاب الناقمون على النظام المحرضون على التغيير وأنا- نستمد تشجيعاً ونشعر بغبطة عميقة حين يُنقل إلينا أنكم تتناقلون مقالاتنا في عقر الدور الأمنية والعسكرية، وتنسخونها سراً ليقرأها ذووكم. لكننا نتعشم في تحرك حقيقي من جانبكم، لأن رفعكم راية العصيان – من خلال إعلان الانحياز إلى الشعب- سيكون الرصاصة الأخيرة في صدغ النظام الظالم. وهو شرف نتمنى أن يُكتب لكم، مثلما سيكتب للجماهير العريضة شرف القيام بالثورة وتحقيق التغيير.
إن وقود الثورة على نظام اللصوص والقتلة هو جيش الشبان والشابات الذين تخرجوا في الجامعات والمعاهد العليا وظلوا عاطلين سنوات، لأن الإدارة السيئة للاقتصاد، والفساد المستشري كالسرطان، وعدم الانتماء إلى فئة ذوي الولاء والقربى لا تتيح لهم الحصول على وظائف. إن وقود الثورة هو الجيوش العرمرم من المواطنين الذين يمشون في الأسواق عاجزين عن شراء ما يكفي لسد رمق أطفالهم، بسبب الغلاء الفاحش، وتلاعب لصوص النظام بقيمة الجنيه السوداني وبآليات الاقتصاد والديون الخارجية التي تثقل كاهل كل مواطن سوداني. إن وقود الثورة هم الآلاف من شبابنا الذين أخضعهم النظام لويلات التعذيب في بيوت أشباحه ومعتقلاته وسجونه ومراكزه الأمنية. إن وقود الثورة هم آلاف من أمهات وآباء الشهداء الذين أزهق نظام اللصوص وتجار الدين أرواحهم في معارك الحروب العبثية الدينية والجهادية والعنصرية. إن وقود الثورة هم ملايين من التلاميذ والطلاب الذين يذهبون إلى المدارس ولا يجدون تعليماً، ولا معلماً مؤهلاً، ولا كتاباً مدرسياً، ويساقون كالأنعام إلى ساحات "الجهاد" العبثي، في انتهاك صارخ لكل المواثيق الدولية. إن وقود الثورة السودانية الكبرى هم مئات الآلاف من الموظفين الذين طردوا من وظائفهم تحت بند "الصالح العام"، فانهدّت بذلك أسر، وانكسرت أعمدة بيوت. الشارع السوداني بكل أطيافه وتنوعاته هو وقود الثورة التي آن أوانها، واكتملت شرائط اندلاعها، ولاحت في أفق الخرطوم أشراطها. ولم يعد ثمة مجال للتراجع والتحايل من قبل اللصوص والقراصنة الأشرار، فقد نفد رصيدهم من الأكاذيب، وأضحت حيلهم وألاعيبهم لشراء الوقت وخداع العقول مكشوفة حتى للأطفال دون سن الالتحاق بالمدارس! ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ظل نظام عمر البشير يلعب على أوتار القضايا الخلافية الكبرى التي ظلت تمزق الرأي العام السوداني منذ استقلال البلاد في عام 1956، معتقداً بغباء أنه سيظل جاثماً على صدور السودانيين ما دامت تلك القضايا مثار خلاف متوارث. صحيح أن ثمة قضايا أمّهاتٍ تثير تبايناً في الآراء وسط السودانيين:
- الحزبية: أسلم الطرق لبناء أحزاب حديثة، وتحديث الأحزاب القديمة بما يواكب المتغيرات الديموغرافية والتعليمية.
- الطائفية: بسببها انشق مؤتمر الخريجين، وبسببها قاد جعفر نميري انقلابه وحروبه المتعددة، وبسببها يشهد الحزبان الكبيران انشقاقات منذ ستينات القرن العشرين. كيف السبيل إلى إعادة تعريف دورها في الحياة السياسية السودانية؟ بالانقلابات العسكرية؟ بالرضوخ للأبقار المقدسة والاستسلام للإرث الاجتماعي؟
- الحكم: كيف يُحكم السودان؟ سؤال ظل يراود جميع السودانيين منذ وقوع انقلاب الفريق إبراهيم عبود في 17 نوفمبر 1958. الأحزاب ظلت تتمسك بحكم نيابي على غرار النظام البرلماني البريطاني. العسكر ظلوا يعتقدون بأن الديكتاتورية الفردية والجماعية هي الحل الأمثل من خلال الادعاء بأن النظام الرئاسي الأميركي هو الحل، مع تطبيقه بشكل مشوه يضمن لقائد الانقلاب العسكري سلطة فردية مطلقة، رأينا كيف جعلت المرحوم نميري يتحول أميراً للمؤمنين، وكيف تحول البشير متاجراً بالشريعة والدستور الإسلامي.
- الشخصية السودانية: هل هي بخصائصها المتوارثة إيجابية؟ هل نحن بحاجة إلى إعادة صياغة تلك الخصائص؟ كيف؟ عمر البشير ورفاقه الإسلاميين الأشرار يرون أن الواجب أن تعاد صياغتها بما يتفق ومصلحتهم في استدامة بقاء منظومتهم وسيطرتهم على الثروة والسلطة، حتى لو تطلب ذلك تغيير القيم الأخلاقية وأنماط السلوك الاجتماعي. والعقلاء يرون أن ثمة ملاحظات على الشخصية السودانية، لكن إصلاحها أو تغييرها أو إعادة صياغتها إذا لزم الأمر تتطلب درساً معمقاً، في الهواء الطلق، وعلى أيدي علماء عدول وأكاديميين أكفاء وقادة منتخبين ومفوضين ومشهود لهم بالطهر والنظافة وينعقد عليهم إجماع كافٍ. ثم من بعد ذلك يصار إلى آليات يتراضى عليها السودانيون لطرح المقترحات في استفتاء عام، أو أن ترى أحزاب وجماعات سياسية أن تتبناها ضمن برامجها الانتخابية.
- الاقتصاد السوداني: أي مسار؟ الديون الخارجية كيف يتم سدادها؟ هل من حقنا أن نتسبب في تراكمها ونورثها الأجيال المقبلة؟ بنك السودان هل بنك الحكومة ورجالات الحكم أم أنه بنك مركزي له أدوار وعليه مسؤوليات ويديره مفكرون وخبراء اقتصاديون؟ هل يصح أن نتظاهر بأن التحرير هو وجهة اقتصادنا ونجيِّر الاقتصاد كله لاحتكار أقطاب الحكم والحزب الحاكم والمحسوبين عليه ليكتوي الشعب بأسره بخطل تلك الممارسات؟
- استقلال القضاء: كيف نرسي نظاماً راسخاً لضمان استقلال القضاء مهما تعاقبت الحكومات والأنظمة؟ العسكر ليسوا وحدهم الذين يلغون استقلال القضاء بجرة قلم، فقد رأينا كيف خرقت الحكومات المنتخبة الدستور وقررت عدم تطبيق أحكام قضائية، ما قاد رئيساً للقضاء لا يزال على قيد الحياة إلى المشاركة في انقلاب الرئيس نميري!
....
هذه وغيرها من القضايا الأمهات لم يحسمها الرأي العام السوداني بسبب استعجال العسكريين وبعض الفئات المدنية للقفز على الحكم بقوة السلاح معتقدين أن الصرامة والقوة العسكرية هما السبيل إلى الحسم. هكذا توالت الدائرة الجهنمية الشريرة (انقلاب، ثورة، انتخابات ديمقراطية، فساد وتسويف، ثم انقلاب). هذه المرة جماهير الأحزاب ليست هي السوقة والدهماء التي كانت في أوقات مضت. والنظام العالمي ليس نظام الحرب الباردة الذي حكم العالم منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. وعدد سكان السودان حالياً ليس كما كان في 1989 أو 1964 أو 1958. نحن - السودانيين- لا نزال على تبايننا في الرأي حيال تلك القضايا المثيرة للانقسام والخلاف، لكننا هذه المرة سنزيح هذا النظام الفاسد لنقيم حكماً مدنياً منتخباً، وتحت أضواء الحرية والعدالة والمساواة يجب أن نتصدى لدرس تلك المسائل واقتراح سبل حسمها لمصلحة الأجيال المقبلة، ولنرسي خريطة طريق إلى المستقبل تستعيد للسودان نهضة ظلت مطمورة تحت تراب الخلافات والعصبيات والتشرذم منذ انهيار دولة مروي في عام 300م، ومنذ انهيار أول حكم ديمقراطي بعد الاستقلال في عام 1958.
السودانيون يريدون التغيير ليس لأنهم ملّوا بقاء الأنظمة، أو لأنهم يريدون التغيير بحد ذاته. ولكنهم يريدون إرساء أساس جديد يعيد للدولة هيبتها، ويرسخ الحريات وحكم القانون واستقلال القضاء، ويهيئ بيئة سياسية واقتصادية وعدلية وعملية تتيح للسودانيين في الشتات العودة ليردوا الديْن إلى وطنهم ومواطنيهم، كل في مجال خبرته واختصاصه. يريدون التغيير لاستعادة نهضة التعليم، وإعادة أمجاد الخدمات الصحية، وإرجاع الهيبة إلى العملة الوطنية السودانية. يريدون التغيير حتى يجئ إلى الحكم رجال ونساء يتقون الله في شعبهم، ولا يأكلون السحت، ولا يتخذون مناصبهم وسيلة للكسب الحرام، ولا يسمحون لأنفسهم بأن تكون سياساتهم وأخطاؤهم مدخلاً للانحلال الخلقي، وفساد الأنفس، وشراء الذمم، واكتناز الأموال المسروقة من قوت الشعب.
لا نريدها ثورة بلا هدف هذه المرة. ليست الحرية والتحرر من الخوف وحدهما هدفا الثورة، بل هو استعادة النهضة السودانية، وتأسيس مستقبل السودان وأجياله القادمة، وإعادة النقاء والطهر والانضباط الأخلاقي إلى الوظيفة العمومية. ثورة للحاضر والمستقبل، تتكئ على الماضي، وعلى موروث مقومات الشخصية السودانية عبر العصور. ليست ثورة للتشفي والانتقام والثأر، ولكنها ثورة ترسي الأساس لقطع الطريق نهائياً أمام "شذاذ الآفاق" ليقفزوا إلى السلطة لتطبيق عقائد أحزاب أيديولوجية، دينها وإيمانها في تخليد بقائها، والاستمرار في امتصاص دم الشعب.
وما يوم "الجمعة" لناظره ببعيد.
معاوية يسن


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.