ياسر العطا: فترة ما بعد الحرب تأسيسية بدون أي حاضنة سياسية    "العالم الإسلامي" تُعرِب عن بالغ قلقها جرّاء تصاعد التوترات العسكرية في شمال دارفور    المؤسس.. وقرار اكتشاف واستخراج الثروة المعدنية    ترقب لمفاوضات "الفرصة الأخيرة" و4 سيناريوهات معقدة    الداخلية السودانية: سيذهب فريق مكون من المرور للنيجر لاستعادة هذه المسروقات    مدير شرطة ولاية النيل الأبيض يتفقد شرطة محلية كوستي والقسم الأوسط    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    تدرب على فترتين..المريخ يرفع من نسق تحضيراته بمعسكر الإسماعيلية    أبل الزيادية ام انسان الجزيرة    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي.. وعينه على الثلاثية    أرسنال يحسم الديربي بثلاثية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    السودان..توجيه للبرهان بشأن دول الجوار    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    تجارة المعاداة للسامية    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    دبابيس ودالشريف    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



8 ديسمبر 65 يوم له ما بعده في حل الحزب (الشيوعي السوداني)
نشر في المجهر السياسي يوم 08 - 12 - 2015


عادل ابراهيم حمد
جمع بين "كمال" و"يوسف" و"مصطفى" حبهم لنادي (بيت المال) والفنان "محمد وردي" والانتماء ل(الحزب الشيوعي). وفوق ذلك قربت بينهم محبة جعلت العمل العام الذي يتشاركونه أكثر إمتاعاً رغم المشقة التي تلازمه في بعض الأحيان. بهذا الشعور الدافع خرج كل منهم من بيت عائلته في ليلة شتوية باردة في أخريات يناير 1965م إلى موقع قريب من (سوق الشجرة) كانوا قد اتفقوا أن يلتقوا عنده، ثم توجه ثلاثتهم إلى (دار الحزب الشيوعي)، حيث يعقد الاجتماع اليومي المخصص لإدارة معركة الحزب في دائرة أم درمان.
كان الحزب قد قرر أن يرشح سكرتيره العام "عبد الخالق محجوب" في تلك الدائرة منافساً لرئيس الحزب الوطني الاتحادي "إسماعيل الأزهري" رئيس أول حكومة وطنية بعد الاستقلال. كان "كمال" الطالب في المرحلة الثانوية ابن الناشط الاتحادي "محيي الدين مكي"، يظن أن الحزب اختار طائعاً تلك المعركة الاستثنائية ليحقق نصراً سياسياً كبيراً وإعلامياً مدوياً في حال فوز السكرتير العام على "أزهري" بجماهيريته.. ولم يكن مرتاحاً لاحتمال سقوط "أزهري" رغم تمنيه فوز "عبد الخالق"، فأسرّ ذات يوم بهذه الهواجس لصديقه "يوسف" الذي يكبر "كمال" بعام واحد، ولم يجد "يوسف" ما يرد به غير قوله لصديقه مبتسماً: (إنك امرؤ فيك برجوازية).. لكنه أحس بأنه لم يقنع "كمال"، فأضاف: الدائرة ليست حكراً ل"أزهري" ولا حقاً شخصياً كما يوحي الاتحاديون. ف"عبد الخالق" أيضاً مولود في حي (السيد المكي).. ولم يعلق "كمال".
خرج الأصدقاء الثلاثة من دار الحزب في وقت متأخر بعد ساعات طويلة قضوها في الدار يراجعون مع رفاق آخرين كشوفات المسجلين ثم يوزعونها على قوائم حسب مواقع السكن. ولم تخل القوائم من أعضاء خارج الدائرة كانوا بمثابة قوة إضافية تدعم السكرتير العام. اختير "كمال" و"مصطفى" في تلك الليلة ضمن أعضاء في لجنة التأمين، بينما كلف "يوسف" مع آخرين بمهام تنظيمية.
يمر عادة الأصدقاء الثلاثة في طريق العودة بمنزل عائلة "كمال" الذي لا يبعد كثيراً عن دار الحزب. وتصادف عند وصول الثلاثي إلى هناك أن كان والد "كمال" عائداً للتو من منزل (الرئيس) كما كان الاتحاديون يسمون "أزهري"، ولا يعرف إن كانوا يقصدون رئيس الحزب أم إنهم يتمسكون برئاسته للحكومة حتى وهو بعيد عنها. وما أن رأى عم محيي الدين كما كان يناديه أهل الحي بمن فيهم ابنه "كمال" - ما أن رأى ولده وصديقيه إلا وقال ضاحكاً: تعبانين ساكت.. قالها وفي نفسه خليط من مشاعر الغضب على موقف الحزب الشيوعي وسرور يحسه كلما رأى ابنه وقد اشتد عوده، وأصبح مشاركاً في قضايا مجتمعه في إطار الحزب الذي اختاره.. ثم شرح عم "محيي الدين" عبارته المقتضبة:
تبقى عليكم البقت على الأنصار يوم رشحوا السيد "عبد الله الفاضل" ضد الرئيس.. ثم تحدث كثيراً مختصراً كل الأمر في (الحسادة).. الأنصار يحسدون "أزهري"، فلم يرشحوا السيد "عبد الله الفاضل" إلا في مواجهة "أزهري" علهم يطفئون بريقه.. والختمية يضعون يدهم فوق يد أعدائهم الأنصار ليسقطوا حكومة "أزهري"، وها هم الشيوعيون على ذات درب الحسادة.
لم يكن أصدقاء "كمال" حريصين على الدخول في نقاش جاد مع عم "محيي الدين" احتراماً لعلاقتهم مع "كمال". كان نقاشهم معه أقرب إلى الدعابة فقال يوسف": (لا زعامة للقدامى) لينتفض عم "محيي الدين": "أزهري" قديم؟.. طيب الجديد منو؟ "أزهري" هو الجديد الذي ظهر في سماء السياسة نجماً ساطعاً ذا بريق مختلف بهر الناس، فهو لا يشبه السيد "عبد الرحمن" ويختلف عن "السيد علي"، وبعيد جداً من شيوخ القبائل.. عرفنا بظهوره معنى جديداً للزعامة. كنا قبله مريدين مكتفين بعلاقة قوامها الأبوة والتبجيل.. زعماء زمان والمشايخ ما قصروا في دور الأبوة (الخايل) فيهم. ولما سافروا ل"بريطانيا" لتهنئة الملك ما كان في غيرهم ولا في أفضل منهم ممكن يمثلون المجتمع السوداني.. لكنهم وصلوا (الميس) مع ظهور الخريجين وزعيمهم "أزهري".. ناس المؤتمر البعرفوا المؤتمر الهندي والوفد المصري وتقرير المصير والتحرر الوطني.. عرفنا معاهم الاجتماع والنصاب القانوني والتصويت والأغلبية والحزب والمظاهرات.. مع ناس "أزهري" عرفنا معانٍ جديدة للسياسة وللزعامة، وتراجعت الطائفة والقبيلة. أصلو ما كان ممكن أنه الجماعة السافروا ل"بريطانيا" سنة 19 يسافروا سنة 55 ل"باندونق".
هنا تغنى "مصطفى" بصوت جميل:
للملايو ولباندونق الفتية
للظلال الزرق في غابات كينيا والملايو
لرفاقي في البلاد الآسيوية
للملايو ولبادونق الفتية
ومثل الذي ظل يتحين فرصة، انفجر عم "محيي الدين" غاضباً:
"باندونق" مالكم ومالا؟ وبالله ده شاعر وطني ده؟ يحوم بقصيدته على "الصين" و"اندونيسيا" و"كينيا" و"الجزائر" و"سوكارنو" و"ناصر" و"كنياتا" ولا يذكر السودان ولا "أزهري"؟!
اكتفى الأصدقاء بضحكة، ثم ودع "مصطفى" و"يوسف" صديقهم الذي تبع والده إلى داخل الحوش الفسيح، والوالد يتمتم بجمل متقطعة ختمها بآهة وهو يقول: والله حكاية.
في طريق العودة نقل "يوسف" ل"مصطفى" هواجس "كمال" بلهجة حرص بها على إظهار الرفض لرأي "كمال" ومبدياً انتظار رد شافٍ من "مصطفى".
كان "مصطفى" أكثر الثلاثة فصاحة وإبانة، فشرح ل"يوسف" رؤية الحزب للدائرة، يبدو أنه سمعها من قيادي كبير في الحزب، فقد كان دون صديقيه كثير الاتصال بالقيادات العليا التي كانت ترى فيه قدرات خاصة؛ فقال إن قرار الحزب ترشيح الأمين العام في دائرة أم درمان لم يقصد به تحقيق صيت سياسي وإعلامي.. هذه قشور.. إنما القصد استهداف البرجوازية الصغيرة في مقتل.. الرجعية المتمثلة في الإقطاعيين من زعماء الطوائف وبعض زعماء العشائر يسهل اجتثاثها، لكن يصعب جداً اقتلاع البرجوازية الصغيرة المتخفية وراء قناع تقدمي زائف.. أمثال "أزهري" يغبشون رؤية الجماهير صاحبة المصلحة الحقيقية في التغيير، فلا هو بالرجعي الكامل مثل الطائفيين الإقطاعيين، ولا يحمل مؤهلات التقدمي.. هو بذلك يجسد أنموذج البرجوازي الصغير أدق ما يكون التجسيد.
في اليوم التالي نقل "يوسف" الرأي الذي سمعه من "مصطفى" ل"كمال"، و"مصطفى" يسمع ويتدخل أحياناً بكلمة أو كلمتين، إذ لم ينقل "يوسف" الرأي بذات الإبانة التي كانت بالأمس في حديث "مصطفى". استمع "كمال" بقليل من الاهتمام، ولم يعلق، فقد بدأ يتشكل عنده تفسير خاص، هو أن أباه وأعمامه الاتحاديين لم يشبعوا من "أزهري" بعد. ورغم أنه تفسير لا ينطلق من أساس ماركسي، إلا أن "كمال" ارتاح له، فهو لم يكن شيوعياً من منطلق فكري، فقد كان منجذباً لشعارات سياسية تؤكد على حقوق العمال والانتصار للكادحين. وكانت تبهره طريقة الشيوعيين في عرض أفكارهم وهم يزينونها بهالات من الهتاف المموسق والأشعار والأهازيج والغناء.
في الليلة السابقة للمعركة التي طال انتظارها، حشد الشيوعي جماهيره.. وصعد إلى المنصة خطباؤه وشعراؤه، يلهبون الحماس ويتوعدون الرجعية بالهزيمة في قلاعها.. كان "كمال" ممتلئاً بمشاعر هي خليط من الزهو والانبهار وهو يسمع لأول مرة "عز الدين" و"الشفيع" و"عمر المكي" و"أحمد سليمان" و"شيخ الأمين" في لقاء جماهيري حاشد، وكان يركز بصره كلما وقعت عيناه على "عبد الخالق" و"نقد" و"التجاني".. و"فاطمة" الظاهرة السياسية والاجتماعية الباهرة.. صعد "عبد الخالق" وسط هتافات صاخبة، وعلت مكبرات الصوت بالأناشيد، و"كمال" يهتف مع جماهير الحزب: عاش نضال الشعب السوداني.. عاش كفاح الطبقة العاملة.. ويردد مع المغنين (أصبح الصبح).. و لا لن يكون، لن يفلح المستعمرون.. تصاعد فيه الحماس عندما بدأ "عبد الخالق" خطابه، لكن حماسه فتر مع مرور الزمن، فقد كان حديث السكرتير العام مختلفاً عن خطب سابقيه. لم يتوعد ولم يهاجم. كان كمن يلقي محاضرة، وبشّر بأن التغيير قادم وأن الحزب يراهن على وعي الجماهير السودانية المستجيبة لبرنامج القوى الديمقراطية بقيادة الحزب الشيوعي. ودعا إلى تحقيق السلام في الجنوب عبر تطبيق توصيات مؤتمر المائدة المستديرة. وأكثر في حديثه من مفردات مثل التنمية والتقدم والوعي والنضال.
أشاع "عبد الخالق" بأسلوبه في الخطابة هدوءاً في المكان، فبدت الساحة ساكنة وكأنها ليست تلك التي كانت تضج بالهتاف، لكن وما أن ألمح "عبد الخالق" إلى قرب انتهاء خطابه، حتى بدأ شباب من الحزب يقفون قرب المنصة ترديد شعارات أعدت خصيصاً لختام الليلة، سرعان ما تلقفتها الجماهير وأحالتها إلى هتافات قوية، زاد من وقعها تصفيق متناسق مع إيقاع الشعارات، فامتلأ "كمال" من جديد بحماس دافق، وأيقن حينها أن (الرئيس) مقبل على معركة صعبة، وأن رفع العلم وحده لن يجعل منه زعيماً بلا منافس.
منذ الصباح الباكر أقبل الناخبون على مراكز الاقتراع، والحزبان في سباق محموم.. شباب وشيوخ، ونساء يصوتن لأول مرة، وصغار لم يبلغوا الثامنة عشر.. التنافس على أشده بين الشيوعيين والاتحاديين حتى بدا وكأن لم يكن في الدائرة مرشح ثالث أو رابع.. لم يخل اليوم الأول من مشاحنات وملاسنات.. بيد أن الثاني كان عنيفاً شهد اشتباكات بالأيدي وضرباً بالكراسي، فقد حمى وطيس المعركة ولاح للفريقين شبح الفشل، وأصبح ضبط النفس صعباً.
انتهت أيام التصويت.. هدأت النفوس قليلاً بعد انجلاء المعركة، ثم عاد شعور التوتر مع أخبار عن اقتراب انتهاء فرز الأصوات.. وحبست جماهير الدائرة أنفاسها، ووجهت الجماهير في كل أنحاء السودان أنظارها نحو دائرة أم درمان.............................................................................................
.....................................
كان "كمال" يحس بإرهاق شديد، إذ كان ينام نوماً متقطعاً منذ انتهاء التصويت وإلى سويعات ترقب النتيجة. خرج إلى الشارع عله يطرد القلق الذي استبد به، وما أن خطى خطوات حتى سمع من جهة بيت الزعيم هتافاً داوياً (حررت الناس يا إسماعيل)، فعرف أن "عبد الخالق" قد خسر الدائرة.
تدافعت جماهير الاتحاديين نحو بيت الزعيم تهتف وتصرخ وقد تملكتها نشوة النصر.. واعتلى "أزهري" مسطبة داخل بيته، فكانت طلته كافية ليسري سحر رافع العلم في نفوس الجماهير الاتحادية، فتدافعت نحو المنصة تختلط هتافاتهم.. حررت الناس.. عاش الرئيس.. أعلامنا ترفرف يا "إسماعيل".. في الجو خفاقة... وهتافات ضد الشيوعيين (الحاقدين)... "أزهري" الذي لم يكن خطيباً مفوهاً، يتكلم ويعد ويتوعد، لكن كلماته كانت تضيع وسط الحماس الطاغي.. الجماهير كان يكفيها في تلك اللحظات (طلة) الرئيس وقد فاز.
وفي ميدان غير بعيد، خطب "عبد الخالق" في جمع من الشيوعيين، مؤكداً أن معركة أم درمان أكدت أن التغيير قادم، ودعا الشيوعيين إلى مواصلة النضال.
تجاوز الشيوعيون سريعاً الخسارة في دائرة أم درمان، وانصرفوا للاحتفاء بفوزهم في إحدى عشرة دائرة من دوائر الخريجين، وبتقديمهم أول نائبة برلمانية في تاريخ السودان، فتباهوا بما حققته القوى التقدمية في السودان من نصر للمرأة في العالم الثالث.
رغم نشوة النصر، إلا أن الاتحاديين أحسوا بمرارة تخالط طعم الفوز في دائرة أم درمان، ذلك لأن حزب (الأمة) تفوق عليهم في عدد الدوائر، فصرف "أزهري" تفكيره سريعاً نحو معركتين قادمتين: أولاهما كيفية نيل الرئاسة رغم فقدان الأغلبية البرلمانية. والثانية معركة طويلة مع هذا التيار السياسي الجديد الذي كاد يسقطه في (دائرته).
لم تكتمل فرحة حزب (الأمة) بنتائج الانتخابات، ذلك لأن الأكثرية التي نالها لم تبلغ به أغلبية تمكنه من تشكيل الحكومة منفرداً، فكان في حاجة لنواب الوطني الاتحادي لتنال الحكومة ثقة الجمعية. هنا.. اشترط "أزهري" أن ينال حزبه موقع رئاسة مجلس السيادة وأن يعدل الدستور بحيث تكون الرئاسة دائمة بدلاً عن الرئاسة الدورية بين أعضاء المجلس الخمسة. وكان ل"أزهري" ما أراد فتشكلت حكومة ائتلافية وأصبح "أزهري" رئيساً لمجلس السيادة.
انتحاب "أزهري" للرئاسة عنى تلقائياً خلو دائرة أم درمان وإجراء الانتخابات فيها مجدداً. ترشح "عبد الخالق" ثانية ورشح الوطني الاتحادي "أحمد زين العابدين".. لم تكن المعركة الثانية بذات حرارة سابقتها.. حيث رأى جل الشيوعيين أن إسقاط مرشح الاتحاديين هذه المرة ليس في أهمية إسقاط زعيم الاتحاديين الذي خططوا وسعوا إليه في المرة السابقة.. وخسر "عبد الخالق" الدائرة للمرة الثانية.
مرت الأيام بعد ذلك عادية، يعيش الناس حياتهم اليومية بلا مفاجآت، فيجتر البعض مشاهد من الانتخابات، ويبدي آخرون خيبتهم في حكم الأحزاب، وفي الديمقراطية، بل ولا يخف بعضهم حنينهم لأيام حكم الرئيس "عبود".. وتباعدت لقاءات الأصدقاء الثلاثة، لكن اقتراب الذكرى الأولى لثورة أكتوبر، منح الثلاثي فرصة جديدة حين اتصل "مصطفى" بصديقيه مقترحاً اللقاء في النادي للتشاور حول كيفية الاحتفال بالمناسبة.
جاء "كمال" إلى النادي بعد المغرب بقليل، ليجد صديقه "مصطفى" وقد تحلق حوله عدد من رواد النادي يحدثهم بصوت عالٍ لا يخلو من سخرية كيف أن "أزهري" انتزع لرئاسة مجلس السيادة سلطات كثيرة، حتى لم يعد سهلاً تصنيف الجمهورية السودانية إن كانت برلمانية أو رئاسية. وأرجع الأمر إلى استهانة الحاكمين بالدستور الذي هو وثيقة خطيرة يجب على الجميع مواءمة خططهم وبرامجهم بما يتماشى مع الدستور، لا أن يصبح الدستور وثيقة مهينة تتواءم مع أهواء السياسيين.
لم تكن السياسة من اهتمامات "صلاح" الذي كان يتابع "مصطفى" بقليل اهتمام.. فأصابه الملل وفقد صبره، فقاطع "مصطفى":
إنت ما بتفتر من الكلام كل يوم في السياسة؟
ثم يخاطب "يوسف" و"كمال" أيضاً:
الحياة أسهل بكثير من شروطكم الصعبة دي.. يا جماعة الشغال يشوف شغلو والطالب يشوف قرايتو وادخلوا الكورة واسمعوا الغنا والكبير كبير والصغير صغير.
ولما كان رواد النادي يعرفون اهتمام "صلاح" الزائد بالكورة، رأى "مصطفى" بذكائه الاجتماعي المعهود أن يخفف جرعة السياسة وأن يجامل "صلاح"، فسأله عن أخبار الهلال الذي (يموت فيه صلاح) كما كان يصف نفسه، فاندفع "صلاح" يحكي عن هدفين أحرزهما "جكسا" في مرمى (الأهلي)، واسترسل في الحديث عن "جكسا" الفنان مذكراً الجميع بأهدافه الحاسمة:
ياخي ده جاب قونين في شباك مصر، وقونين في "نيجيريا" يوم غلبناهم أربعة صفر.. يقصد انتصارات السودان في نهائيات البطولة الأفريقية.
أحس "مصطفى" أنه أرضى "صلاح"، فقرر إدارة دفة الحديث إلى ما جاء إليه أصلاً، وأن يضفي على السياسة إمتاعاً، فوجه حديثه إلى "صلاح" وهو يعني جميع الحاضرين:
رأيك شنو نحتفل بذكرى ثورة أكتوبر، بأناشيد الثورة، وندوة صغيرة حول التحولات الاجتماعية بعد أكتوبر.
فقال "صلاح": والله سياسة ب (الغنا) ما بطالة.
وقال آخر: فرصة نسمع محمد الأمين (الثورة الحرية الحمراء شمس لا تغيب).
وتساءل ثالث إن كان هذا المقترح يعني حضور فنانين كبار، فسارع عضو في مجلس الإدارة إلى ضبط مسار النقاش ونبه الحاضرين إلى أن الأمر كله في هذا اللقاء غير الرسمي لا يعدو أن يكون تداولاً حول مقترح قدمه هؤلاء الشباب، وأن القرار بيد مجلس الإدارة.
تحول النقاش إلى شبه اجتماع، فصار الحديث منظماً أفضى في النهاية إلى مقترح بالاحتفال بذكرى الثورة بإقامة ندوة تتخللها أناشيد الثورة.. بعدها عاد الجمع إلى مؤانسة فيها ظلال من الاحتفال المرتقب، فأشار "يوسف" إلى التفاعل الإبداعي الكبير مع الثورة كانعكاس لأهمية أكتوبر مستدلاً بالكم الكبير من الأناشيد الرائعة؛ فالتقط "كمال" طرف الحديث ليبدي إعجاباً خاصاً بنشيد (أكتوبر الأخضر) و..
باسمك الشعب انتصر
حائط السجن انكسر
والقيود انسدلت جدلة عرس في الأيادي
وقال أحد الحاضرين إن "محمد وردي" عبقري بحق، فقد برع في الأغنيات الوطنية بذات براعته في الغناء العاطفي، وعدد أغنيات للفنان مثل (الطير المهاجر) و(المستحيل)، وساق الحديث إلى الثنائية مع الشاعر "إسماعيل حسن"، وما أحدثه صاحب (لو بهمسة) من نقلة مهمة في الغناء السوداني.. ويدخل "صلاح" بصوت يحمل الاحتجاج والرجاء:
وما تنسوا يا جماعة "عثمان حسين".. (شجن)، شجن يا ناس .. و(القبلة السكرى) و"حسين بازرعة".
لم يمر على "كمال" بعد الاحتفال بذكرى الثورة ما يلفت الانتباه، فتعايش مع رتابة اليوم المدرسي إلى أن أكمل الامتحان النهائي، غير أن رحلة إلى قرية (المسيد) التي لا تبعد عن الخرطوم كثيراً مثلت معلماً في حياته، وأعادت ترتيب أفكاره لحد بعيد.
كان ل"كمال" أهل في تلك القرية حيث يعمل خاله في (محطة سكة حديد المسيد) التي جاء إليها منقولاً من (سنار التقاطع). وقد شده إلى الرحلة شوق إلى ابن خاله "فيصل" الذي نشأت بينه وبين "كمال" صداقة قبل عام عندما جاء "فيصل" بصحبة والديه لحضور زواج أخت "كمال" الكبيرة. نشأت حينها صداقة جديدة ل"كمال" لم يعهدها في صداقاته العديدة التي لا تخلو كلها من تكلف وإن قلّ. لكن "فيصل" كان شخصاً فريداً، يعبر عن نفسه بتلقائية وصدق، حتى يبدو جريئاً في بعض الأحيان عندما يتحدث مع الكبار، لكنهم كانوا يقبلون طبعه، فقد كان مطيعاً ويتطوع بخدمة الجميع.
لاحظ "كمال" منذ بداية معرفته ب"فيصل" أن صديقه الجديد لا يحب الحديث عن المدرسة والدروس، ويعبر بصراحة عن بغضه الخاص لأستاذ اللغة الانجليزية، وينعته بكلمات بذيئة. يحب أجواء المرح، يحكي النكات ويضحك عالياً عند سماعها، ويميل إلى الكلام عن الأغاني والحفلات والبنات، ويحاكي الكبار مقلداً. لكن ما أدهش كمال حقاً هو أن هذا النموذج الذي كان يعتبره حاملاً لكل مواصفات الفشل، أظهر نجاحات أذهلته وهو يشارك بهمة في مناسبة العرس، يبادر بخدمة الضيوف ويسارع لتنظيم الكراسي ويساعد في حمل ألواح الثلج.. ويمازح (عتالة) عرفهم للتو، وهو ما يعجز عنه كمال ذاته، وما لا يستطيع فعله أقران "كمال" الذين يوصفون بالتفوق والشطارة.
وصل "كمال" بيت خاله في محطة المسيد، كان عبارة عن قطيتين حجريتين رأى مثلهما عن بعد في محطة الخرطوم . كان حضوره مفاجئاً؛ لقيته زوجة خاله بالبشر وأرسلت طفلاً للمحطة ينادي "فيصل" الذي جاء مسرعاً ولاقى صديقه وقريبه بالأحضان والضحكات. ثم أخذه من يده خارجين إلى المحطة رغم رجاءات والدة "فيصل" بأن يدع الضيف يرتاح.
كان "فيصل" قد ترك المدرسة، وشارك أحد أهل القرية في مقهى صغير يقدم المشروبات في المحطة العامرة بالبصات واللواري والشاحنات، وكسب "فيصل" زبائن كثيرين بروحه المرحة وقدرته على التواصل.
تصادف وصول الصديقين إلى القهوة مع توقف بص قادم من مدني وشاحنة متجهة إلى الصعيد، فأجلس "فيصل" ضيفه على كرسي مريح بعيداً عن زحمة الركاب وانشغل بخدمة الزبائن العابرين الذين تتطلب حالتهم عجلة وتجويداً. وما أن غادر البص المحطة حتى أقبل "فيصل" نحو "كمال" وكأنه يستقبله من جديد، ثم قال:
دي قهوة صاحبك.. بلا مذاكرة بلا طابور صباح بلا تسميع. أنا الآن أكسب أكثر من ثلاثة جنيهات في اليوم، أساعد أبوي وأجامل أصحابي. ثم همس ل"كمال" بأنه سوف يتزوج عما قريب من إحدى فتيات القرية.
فعلق "كمال" بإعجاب:
والله إنت ثائر..
ثم حدث نفسه قائلاً: مثلما تعلمت منه من قبل أن طريق النجاح ليس واحداً، فها هو يعلمني أن للثورة أكثر من وجه.
جلس عند المساء مع خاله الذي عبر عن سروره العظيم بهذه الزيارة. وتعمد "كمال" أن يسأله عن ترك "فيصل" للمدرسة فاكتفى الوالد بالقول (هو حر) ولم يبد انزعاجاً، ثم أضاف أنه لا يجبر أياً من أبنائه على الدراسة ولا يجبرهم على تركها، فتساءل "كمال" إن كان خاله يطبق مبدأ الاستقلالية من غير أن يعنيه.
وجاء عدد من الجيران فقدمه لهم خاله، ورأى "كمال" أنها فرصة ذهبية أن يجلس لأول مرة مع مجموعة منتمية حقيقة للطبقة العاملة، رغم أنه كثيراً ما تحدث عنهم وكثيراً ما سمع عنهم، وعاب على نفسه أن ظل طيلة الفترة الماضية من تجربته السياسية القصيرة يتكلم عن عمال سودانيين وكأنهم مخلوقات غير أرضية.
رغم سعادته بالفرصة النادرة لكنه مفاجأة غير سارة كانت تنتظره، إذ أحس أن هؤلاء العمال ليسوا هم الذين يعنونهم في خطابهم السياسي.. وأن أصحاب هذه البيوت الصغيرة والمرتبات القليلة ليسوا بالشقاء الذين تصوره، فهم يضحكون للحياة ويرسلون أبناءهم للمدارس ويرتبون حياتهم وفق معطيات قليلة. وطرد شعوراً مخيفاً بأن يكون قد أضمر أمنية بأن يظل العمال على حالة الشقاء، حتى يلهموا الحركة الثورية بأهازيج عن (الأبرول) وعرق العمال وبيوت تتشقق جدرانها.
قضى "كمال" يومين تنقل خلالهما بين المحطة والمقهى والنادي ولبى دعوة على العشاء وجهها له أصدقاء ل"فيصل" في قرية (المسيد). وفي اليوم الثالث، جاء إلى المقهى على غير العادة أخ ل"فيصل" يدرس في "يوغسلافيا" تصادف وجوده في إجازة خلال زيارة "كمال". عاد للسودان بعد ست سنوات ولا يعرف أهله متى يكمل دراسته. شاب ثقيل الظل لم يطقه "كمال"، لم يجلس يوماً مع هذا الضيف القادم من الخرطوم، ولا يقيم إلا دقائق في منزل أسرته الصغيرة، حيث يغادر سريعاً إلى منزل ناظر المحطة الأوسع بدعوة صداقة تربطه مع ابن الناظر. ويأتي في المساء إلى النادي منزوياً في ركن بعيد ممسكاً بكتاب، فقد انفض عنه رواد النادي بعد أن ضاقوا بقصصه التي يحسبها مدهشة عن الأوربيين. ولم يبق له سوى معلم طيب يشفق عليه ويقبل نحوه مجاملاً يدعي الاندهاش من قصص عن كرواتيا وتيتو وبلغراد والرد ستار.
دخل (القهوة) فأحس "كمال" بأن أنفاسه مكتومة ونفسه منقبضة. حيا "كمال" بابتسامة بلا معنى، ثم جلس وأدار معه حديثاً قصيراً مملاً قال خلاله إن السودان لن يتقدم بهذه الطريقة، ولم يفصح أي طريقة يعني. ثم أسر ل"كمال" بأنه شيوعي، وتمنى "كمال" لو أن هذا الكريه احتفظ بهذه المعلومة.

في ذلك اليوم، كان الخبر المشترك بين ركاب البصات القادمة من الخرطوم هو أن مظاهرات صاخبة تجوب شوارع العاصمة تطالب بحل الحزب الشيوعي. فقرر "كمال" قطع رحلته ل(المسيد).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.