حكمت محمد يس، وآمنة خيري، وسمرقندية المحتسب، وقمر موسى، أخواتي في الحسّ الواحد والوجدان وحب الشعر، سماعه وكتابته، وتلك الأيام نداولها بين الناس.. كنا في ميعة الصبا.. قلوبنا خضراء تنبض حباً ونقاءً وجمالاً.. الزمان، كان سبعينيات القرن الماضي.. وكلما جاءت ذكرى السنوات تنهدنا حسرة وبكينا على الأطلال والدّمن.. كان مساء الأربعاء من أحب أيام الأسبوع لنا.. كنا (نَدُك) محاضرات الجامعة، القاهرة الفرع، لنذهب إلى منتدى اتحاد شعراء الأغنية السودانية بمباني المجلس القومي لرعاية الآداب والفنون، الذي كان على رئاسته الشاعر العظيم المرحوم مبارك المغربي، والحديث عنه يحتاج صفحات وصفحات، فالرجل أستاذنا وراعينا ودارنا الرحبة التي نطمئن بالسكنى فيها.. فالرجل أرق من الأنسام، ولكم أعطانا من وقته الثمين ومن ماله الكثير.. في ندوة الأربعاء تعرفنا على الشاعرات الرائدات الفضليات، حفظهن الله، وللذي لا يعرفهن، "حكمت" و"آمنة" من أوائل الأصوات اللائي صدرت أشعارها في دواوين صغيرة ولهن الفضل في اقتحام المنتديات ومنابر الشعر.. عتيق - له الرحمة - كان يثني على أشعارهن، والعبادي، وعبيد عبد الرحمن، وحسن مدثر، وخليفة الصادق، وعوض جبريل، وحسن الزبير - يرحمهم الله رحمة واسعة - وأطال الله أعمار أساتذتنا محمد يوسف موسى، وإسحق الحلنقي، والصادق إلياس، وتاج السر عباس، وعقد فريد من الشعراء ومحبي الشعر، يستضيفهم المجلس القومي لرعاية الآداب والفنون كل أربعاء، والمنتدى له منهج تفتقده منتديات هذه الأيام، فالكبار يقيّمون أشعار الناشئة، والكبار يعرضون أشعارهم لأندادهم ورصفائهم من الشعراء ونحن ننمو في ذلك المناخ المعافى الجميل.. ولنا في المنتدى (الأربعاء) ذكريات حبيبة لن تمحوها الأيام، ومواسم نعقدها احتفاءً بالعديد من الأغنيات.. (ما هويتك لي جمالك.. إنت آية من الجمال.. والفؤاد دائماً ينادي ليك لأنك من بلادي) رائعة المغربي (حب الأديم) التي لحنها وأداها الفنان الجميل صلاح بن البادية، ووقتها كان صديقنا الإعلامي الشاعر المتصوف عمر بشير، أحد حيران المغربي، وكان يسبقنا جميعاً لتهيئة المكان والتزود من إرشادات شاعر النيل المغربي، كان ولا زال يمتلك صوتاً عذباً رقيقاً حينما ينشدنا أغنية (حب الأديم).. ما هويتك لي جمالك.. ومرت الأيام كالخيال أحلام.. كنا نستمع برفقة أساتذتنا الأجلاء الذين علمونا الكثير.. بالمناسبة فكرة المنتدى الذي أقمته بالمجلس الاتحادي للمصنفات الأدبية والفنية جاء تقليداً لما تعلمناه من أستاذنا الراحل المقيم مبارك المغربي.. ومنتدى الأربعاء كان يستضيف كل فنان كان يرغب في المشاركة بتقديم أغنياته الجديدة، والمنتدى حينما انتقل إلى نادي الخريجين بأم درمان ضاقت سعة الدار برواد المنتدى.. الشاعرة حكمت يس قدمت عدداً من أغنياتها وكذلك سمرقندية وآمنة خيري.. (صدقني ما بقدر أعيد.. قصة غرام بالشوق بدت.. رحلة عذاب دابا انتهت.. كيف تاني نرجع من جديد؟) إلى أن يصل النص الرائع لذروة بيت القصيد (والليلة بتقول نبتدي؟!.. يفرح عمرنا وينتشي.. أنا حبي ليك بدري انتهى.. وزي الما كان بيناتنا شيء.. صدقني ما بقدر أعيد!!) غناها كمال ترباس، هي وأخريات، فصارت ولا زالت أغنية محببة لمحبي الغناء والطرب، لا سيما هذه الدائرة التي تحكي حال المحبين وخصاماتهم، والدليل أيضاً رائعة بازرعة التي شدا بها الراحل المقيم عثمان حسين، بعد أن كساها حلة لحنية رائعة: (جاي تترجاني أغفر ليك ذنبك؟ ما كفايا الشفتو من نارك وصدك!! ما كفاية إنت داير تاني أرجع لك وأسامحك؟! لا.. لا.. لا يا هاجر!! دربي أصبح ما هو دربك).. ما السر في اجتماع الناس حول هذه الحدوتة التي تدور حول الخصام والوفاق بين المحبين؟! وهذا شاعرنا وأستاذنا محمد يوسف موسى في رائعته التي لحنها الفنان المطرب الشاعر صديقي الشيخ صالح (صلاح) النيل أبو قرون (ابن البادية): (أعيش في ضلمة وإنت صباحي.. وإنت طبيبي.. وأموت بجراحي!! وتعاتبني عشان بس كلمة.. وأحلى قصايدي نظمتها فيك.. نظمت فيك.. نظمت في لونك أحلى الأغاني.. نظمت في شعرك في خديك.. كلو نسيتو ما نسيت كلمة في لحظة يأس أنا قلتها ليك).. لعقود من الزمان ظل أستاذنا محمد يوسف يسأل عن كنه تلك الكلمة التي (فرقتنا يا حبيبي!!)، وأيضاً جادت قريحتي وساهمت في هذا الضرب من الغناء فجاءت (وجاي تفتش الماضي؟! خلاص الماضي ولىَّ زمان!! وجفت مقلتي الباكية ونامت من سنين أحزان).. وتمضي الأغنية إلى المقطع: (عزة نفسي مابيه عليَّ.. أسلم قلبي ليك تاني!! سنين الهجر بيناتنا وحاجات تانية حامياني).. وتظل (الحاجات التانية) موضوع سؤال: ما هي تلك الحاجات التانية الحامياني؟!.. بعدنا عن المرحوم مبارك المغربي ومنتدى الأربعاء، وبوفاته مات المنتدى، ومات اتحاد شعراء الأغنية، ولا أدري لماذا الإصرار على أن الاتحاد كيان حي ينبض بالحياة؟! وأعضاؤه قد تفرقت بهم السبل، فهم ضيوف على اتحاد المهن الموسيقية، ودار فلاح للغناء، واتحاد فن الغناء الشعبي ومراكز الشباب.. والغريب أن لاتحادنا هذا مقراً في موقع سياحي ممتاز جنوب المسرح القومي، وأن قوائم أساسه وسقف طابقه الأرضي قائمة.. والزعم بأن اتحادنا قائم قول باطل بطلاناً مطلقاً قانوناً.. لذا هذه سانحة أتقدم فيها لعقد اجتماع لكل شعراء الغناء في بلادي ليتفاكروا حول إحياء الاتحاد لتعود ندوة مبارك المغربي.. وأرجو من أستاذي محمد يوسف رئيس اتحادنا أن لا يفسر حديثي هذا انقلاباً عليه.. ومن هسه.. أنا معتذر عن تقلد أي موقع رسمي بالاتحاد، وهذا ينفي عني شبهة التمرد والانقلاب على أساتذتنا، وسنة الحياة تؤكد أن جيل الشباب من الشعراء ينبغي أن (يشيلوا الشيلة)، وعلينا نحن السلف من الشعراء تسليم الراية لهم، فهم الأقدر على تسيير دفة الأمور بالاتحاد، وهم ورثتنا شرعاً وقانوناً، فلنسلمهم كل شيء ولنجلس في رحاب دارنا على النيل نشرب القهوة ونعطيهم من خبرتنا الرشد والنصح، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار أن بالسودان قانوناً ينظم عمل الكيانات الطوعية العاملة بالشأن الثقافي، وأن اتحادنا من الكيانات العريقة، وأنه مسجل وفق نصوص هذا القانون الذي يشرف على إنفاذه مسجل، ووزارة الثقافة هي الجهة المشرفة.. وأحذر شعراء الغناء، وأنا منهم، من الانشقاق و(تكسير) كياننا إلى كيانات، فالتجربة دلّت على أن تفتت الكيان الثقافي يضعف من فعاليته، فلماذا لا نجتمع على صعيد واحد وكيان واحد يضم أهل الإبداع كافة؟ أهل الموسيقى وأهل الشعر بأشكاله المختلفة، وأهل الغناء، شعبي وحديث، وأهل القصة والرواية وأهل الدراما.. لماذا نتنافر ولا نتواءم؟ وقضية المبدع منذ بدء الخليقة هي أنه يود أن يعبر نيابة عن مجتمعه، لتجسيد آمال وأفراح وأحزان وأشواق الأمة.. المبدع، أياً كان إبداعه، شغله الشاغل أن يزرع الخير والمحبة والجمال، وغاياته سامية نبيلة تنشد القيم المطلقة التي تدعو لها كل الأديان السماوية.. وتأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا.. وإذا افترقن تكسرت آحادا.. إذن كل الظروف مواتية لرأب الصدوع ولمّ شمل قبيلة الإبداع، وإلى حين قيام الكيان القومي الموحد لكل كيانات الإبداع، دعونا نلمّ شعث شعراء الغناء، فهم أصحاب الحق الأصيل قبل المؤدين المغنين، وتبدأ الأغنية بالنص الشعري ليصنع لها اللحن.. والملحن هنا صاحب حق أصيل ثم المؤدي ثم الفرقة الموسيقية، وطالما أصبحت للملكية الفكرية قوانين ومحكمة ونيابة، إذاً لا عذر لأصحاب الحقوق في ضياع حقوقهم المادية والأدبية، وكلما توحدوا في كيان واحد يصبح أمر حصولهم على حقوقهم أسهل وأيسر عبر ممثلهم القانوني في الكيان، أو الشخص الاعتباري الذي ينتمون إليه.. لذا يجب أن يسارع أهل الإبداع إلى توفيق أوضاعهم وفق قوانين الملكية الفكرية.. ومن بشريات قانون حق المؤلف والحقوق المجاورة، أن المؤلف صاحب حق أصيل، وهو الوحيد الذي يحدد الكيفية التي يستغل بها مصنفه الأدبي، ويظل يتمتع بحقه المادي هذا طوال حياته، ويؤول هذا الحق لورثته يتمتعون بحق مورثهم المادي لمدة خمسين سنة، بعدها يسقط هذا الحق، ويوجب القانون تحديد مقابل مادي ومدة محددة لاستغلال المصنف، وتبرم عقود الاستغلال محددة الكيفية التي تستغل بها المنصفات هذا، وبرغم حداثة قوانين الملكية في السودان إلا أن ثقافتها قد بدأت في الانتشار، لا سيما بعد صدور العديد من الأحكام في العديد من القضايا التي نظرتها محكمة الملكية الفكرية.. لذا، يا قبيلة الإبداع اتحدوا!!