جو العاصمة الخرطوم مثل مزاج قاطنيها، فهو متقلب .. يميل للحرارة الشديدة بما في ذلك أيام الخريف، في حين قد ينقلب فجأة .. فيرعد .. ويزبد .. ويمطر .. ويهدم البيوت على رؤوس ساكنيها ! والخرطوميون لهم نصيب من أجوائهم، والسائر في شوارع العاصمة .. يستطيع أن يسمع بسهولة الكثير من العبارات الغاضبة، معظمها يخرج من سائقي المركبات، خصوصا عند التقاطعات في الشوارع المتكدسة .. والتي لا تترك صبرا لأحد كي يجعل الرحمن في قلبه ! غلطان العلمك السواقة .. يا حيوان ! هذه العبارة .. تتردد أصداؤها يوميا في الشوارع، ومع أن بعض السائقين لا يتوقفون عندها كثيرا .. إلا أن هناك من يفور الدم في عروقه حين يتم توجيه هذه الكلمات له، وقد يكون له ردود فعل لها ما بعدها .. بدءا من إرسال زخات من اللعاب اللزج في وجه الذي أطلق العبارة، وانتهاء بحمل مفك أو مفتاح إنجليزي .. إيذانا ببدء جولة شديدة الخطر من المواجهة . مساء الأربعاء الماضي، وأنا خارج من إفطار الصحفيين الذي أقامه اتحادهم بنادي الضباط .. كان واضحا أن البرق يضيء من اتجاه القبلة في الأفق المرئي، وهو ما يعرف ببرق (العبّادي) الذي لا يخيب، فإذا لمع وتوهج .. فهذا معناه حدوث المطر لا محالة . سارعت ليلتها صوب المنزل، فالمطر حسب قراءتي سيكون قويا .. وغاضبا .. ومزمجرا .. خصوصا وأن السحب التي كان البرق يتوهج منها .. بدت محملة بأطنان من المياه التائقة للهطول . ومع أن آخرين لم يكترثوا كثيرا للأمر، باعتبار أن الاحتمال الآخر وارد، وهو ان تكون (البروق) زوبعة في فنجان، لكن ما تعلمته من الأهل والبيئة عن (العبادي) .. جعلني مقتنعا بأن ثورة الطبيعة قادمة .. حتى وإن بدت مهادنة في بعض ملامحها لمن لا يعلمون ! عدت للمنزل .. وما هي إلا ساعة زمان، حتى بدأ الهطول الغزير، ودوت في سماء العاصمة فرقعات رعدية جبارة، وكان واضحا أن المزاج المطري متعكنن .. وأنه في سبيله لإحداث أثره في العاصمة .. شاء واليها أو لم يشأ ! الموجة المطرية كانت على شوطين، الشوط الأول كان عبارة عن (تليين) للمواقع، وعمليات رش للأماكن المستهدفة، بعدها جاءت فترة راحة .. ظنها البعض فترة انقشاع للغيوم .. لكنها كانت الهدوء الذي يسبق العاصفة .. ولم يمر بعض الوقت، حتى هبت العواصف، وعادت الأمطار بقوة .. وعاش العاصميون ليلة ليلاء .. دفعت أثمانها كل المنازل والشوارع بشكل أو بآخر .. وانهارت لها العديد من البيوت، بعد أن لانت في الشوط الأول، وخصوصا في مناطق أم بدة وامتداداتها اللا نهائية، لتجعل ساكنيها عائشين في الهواء الطلق بين عشية وضحاها ! العكننة الخرطومية ليست بعيدة عن الأمر، فقد عاش أناسها شوطا أوليا من الزمجرة قبل رمضان، وكانت الأسباب ضيق الحال، والإحساس بالظلم والهوان، والواجب أن ينتبه أولو الألباب، ويخمدوا كل بؤر الالتهاب .. حتى لا يبدأ الشوط الثاني بعد العيد .. فيجعل عاليها سافلها .. مثلما فعلت أمطار أم بدة .. بالعديد من مبانيها في غفلة من الجميع !