واشنطن تقيّم (تنازلات) السودان المتتالية بثمن بخس دراهم معدودة، بل وتطالب بالمزيد.. فقط (250) مليون دولار جزرة (زابلة) مدتها واشنطن للسودان مساهمة منها في إعفاء ديونه لديها البالغة (2.4) مليار دولار.. المبلغ المتواضع اقترحه الرئيس باراك أوباما على الكونغرس للعام القادم (2013م).. ليس هذا فحسب، فواشنطن تربط منح الدعم الهزيل بشروط سياسية قاسية وليست إصلاحات اقتصادية حتى لو كانت على شاكلة شروط البنك الدولي.. الشروط تشمل رؤى أمريكية لحل ومعالجة الأوضاع في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق فضلاً على ودارفور.. (250) مليون دولار، يا أمريكان يا ظلمة، خصصها ثري خليجي قبل عدة أسابيع لشراء شقة في عاصمتكم الصاخبة باليالي الحمراء والمخدرات والقمار.. ولو تعلموا أن الدولة تدفع حالياً (600) مليون دولار سنوياً لسداد القروض الخارجية أي!!.. مجمل ديون السودان (37) مليار دولار متراكمة منذ عهود "جعفر نميري" و"الصادق المهدي" بالإضافة ل(الإنقاذ)، فماذا تساوي تلك الجزرة (العليلة) حيال تلك الديون التي أكثر من (80%) منها هي ما يعرف بخدمة الدين (ربا عديل ومركب كمان) أي أن أصل الدين قد لا يتجاوز ال(20%) من إجمالي ديون السودان.. الغريب أن الدولة ماضية في تحليل القروض الربوية ولا يهم أن تراق ماء وجوه الأجيال القادمة وهي تستجدي إعفاء الديون كما تفعل الحكومة اليوم.. جزر واشنطن الممدود إلى السودان مثل (غشاشة) الرضع التي تمد لهم ليرضعوا الهواء بدلاً عن الحليب والسودان ومنذ عقدين من الزمان يأكل (الهوا) الأمريكي.. حتى ذلك المبلغ التافه لن يحصل عليه السودان مهما قدم من تنازلات في جنوب كردفان والنيل الأزرق.. ماذا قدمت واشنطن عندما وقّع السودان اتفاقية (نيفاشا)؟.. وماذا قدمت عندما أوفى وأجرى استفتاء الجنوب واعترف بالدولة الجديدة؟.. إذن هذا المبلغ الموعود والمشروط لا يعني شيء ولو ارتفع إلى مليار دولار في ظل نوايا واشنطن المعروفة تجاه السودان. في العام الماضي قالها المبعوث الأمريكي للسودان "برينستون ليمان" صراحة وبدون مواربة وهو يدشن فترة عمله: (من المؤكد أنه سيكون لدى الولاياتالمتحدة علاقة مختلفة مع جنوب السودان عن علاقتها المتوترة منذ سنوات مع السودان).. "ليمان" أضاف: (أتوقع أننا سنرفع مستوى العلاقات إلى سفارة كاملة في جوبا)!!.. طبعاً تم سحب السفير الأمريكي من الخرطوم عام 1998، ولم يعد لواشنطن سفيراً منذ ذلك الوقت!!.. "ليمان" الذي خلف "سكود غرايشون" سارع ليخيب ظن وزارة الخارجية فيه وهي التي استحلفته بالله، وهي ترحب به بأن يستصحب ما أسمته بالإرث الإيجابي الذي تركه سلفه غرايشن، خاصة فيما يتصل بالتزام الحيادية بين طرفي السلام، وتعزيز الثقة.. المشكلة ليست في شخصية المبعوث أياً كان ولا حتى في شخصية الرئيس "أوباما" ذات نفسه، ولكن المشكلة في العقل السياسي الأمريكي إجمالاً.. "ليمان" جاء بدفع قوي من وزيرة الخارجية الأمريكية "كلينتون" لينتهج سياسة مخالفة لسلفه فلم يكن يعجبها "غرايشون" مطلقاً.. "غرايشون" كان قد نقل بخلفيته العسكرية المنضبطة بكل (واقعية) ما رآه ولمسه في السودان، خاصة دارفور، وخلص إلى أنه ليس هناك دليل على تبني السودان للإرهاب وليس هناك إبادة جماعية، وأوصى برفع العقوبات عنه والبدء في تطبيع العلاقات بين البلدين؛ لأن كل ذلك يصب في حل مشكلة دارفور.. "غرايشون" أقرّ بتحسن الأوضاع الأمنية والإنسانية في دارفور؟.. الرجل الذي كان قد تحدث من الفاشر مباشرة سبق وأن تعرض إلى حملة شعواء في الكونجرس حين نفى بشكل قاطع وحاسم وجود إبادة جماعية في دارفور!!.. كل ذلك لم يكن ليعجب كلينتون ومن خلفها اليمين المتطرف.. آخر مظاهر النفاق الأمريكي حين أعرب "ليمان"، في حديث له في المجلس الأطلسي - وهو مركز أبحاث يعنى بالسياسة الخارجية – قبل أسابيع عن ما وصفها بمشاعر الحزن إزاء توتر علاقات بلاده مع السودان.. التجارب تعضد اعتقاد الكثيرين بأن أمريكا عندما تريد سوءً بأحد تسبق فعلتها الغادرة بكل ما يجمّل صورتها ويخفي نواياها الحقيقية. • آخر الكلام: (كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ) صدق الله العظيم