بالأمس .. وجدت نوتة قديمة .. لم يخطر بخيالي أنها ما زالت موجودة، بعد أن صحبتني ردحا من الزمان .. خلال الأيام الريانة من العمر الذي مضى . النوتة كانت مخصصة لأرقام التليفونات، وتلك كانت عادة سائدة في عقود خلت، حيث لا يمكن أن تكون أمخاخنا دفاتر تحفظ كل الأرقام، رغم أن الناس كانوا ذوي قدرة عالية على الحفظ، وشخصيا كنت أحفظ أكثر من ثلاثين رقما حفظا كاملا.. وأستعين بالنوتة على أرقام أخرى، للاطمئنان على سلامة الحفظ لا أكثر ! النوتة كانت مندسة بين أوراق قديمة .. تحولت معظمها إلى اللون الأصفر .. وأصبحت تكسوها طبقة من الغبار الناعم المثير للعطاس، والمهيج لاحتقان الأنف ! يا لها من نوتة (!)، لقد حوت ثروة من الأسماء العزيزة على النفس .. أسماء جمعتني بأصحابها ظروف الحياة حينا من الدهر .. منهم من هاجر تاركا الوطن إلى غير رجعة .. ومنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، ولم يبق رقم واحد صالح كي يصلني بمن أعرف، بعد أن انفض السامر، وغابت شمس ذلك الزمان بكل ألقه ومشاعره ! تجولت في قوائم الأرقام، فوجدت الكثير منها ما زال موجودا في رأسي، كيف بالله يستطيع هذا الرأس أن يحتفظ بتلك المعلومات رغم تقادمها، في حين لا يستطيع حفظ رقم واحد الآن ، وكيف تحولت الأمخاخ من ذاكرة موجودة في الدماغ، يعينها قلم ونوتة للتوثيق، إلى (قائمة) موجودة بالموبايل، فلا مجال لحفظ رقم في الرأس .. حتى لو كان الرقم لهاتف (بان كي مون) ! لو قال لي شخص منذ عقدين من الزمان، إن الموبايل سيحل محل التلفون التقليدي .. لاتهمته بالخبل، لكن الدنيا تغيرت، وأصبح الموبايل واقعا، يحفظ أرقامنا الهاتفية، ويصلنا بالآخرين، ونستعمله مفكرة للتذكير، وجهاز راديو للاستماع، وكاميرا للتصوير، ومسجلا لأغنياتنا وموادنا المسموعة، والبوما لصورنا، ومكتبة للفيديو والافلام، وبطارية نستضيء بها عند قطوعات الكهرباء ليلا ! فوق ذلك، جاءنا الموبايل، فأصبح وسيلة اتصال لأصحاب الحسابات ببنوكهم، وآلة حاسبة للجمع والطرح والضرب والقسمة، ووسيلة لأصحاب الرسائل العملية والمعلوماتية والاجتماعية و .. الملتهبة ! الموبايل أضحى وسيلة لتلقي الأخبار، ووسيطا لنقل الأموال، فبات الناس يتداولون بالتحاويل الموبايلية، ويجرون من المعاملات الحياتية .. ما لم يخطر ببال بشر ! الموبايل أحدث نقلة لا شبيه لها في تاريخ العالم، واسألوا الفسباكة (أهل الفيس بوك)، ومحبي الألعاب الألكترونية، ومتابعي مواقع التلفزة، ومهووسي الرياضة العالمية، وأصحاب البورصات والأوراق المالية، وتجار الدولار، وأهل العشق ! جاء الموبايل .. فأحدث كل ذلك الانقلاب، وما زال مرشحا لأدوار لا يبلغها خيال، ليصبح واحدا من أعظم اختراعات البشرية تأثيرا في الحياة، وأكثرها قدرة على إضافة المزيد من التأثيرات الباهرة في مستقبل الأيام . الموبايل غزا دنيانا، فأحال نوتتي للتقاعد والانزواء، ونحّى عن طريقه التليفون التقليدي القابع في البيوت، وتدخل في كل تفاصيل الحياة دون مقدمات أو استئذان. انقلبت الدنيا، وانطلقت الحياة لآفاق رحبة بلا نهايات، ومع ذلك أصبح الإنسان أسيرا لآلة صغيرة، لا يستطيع منها فكاكا، ولا يقدر على الانطلاق .. متحررا من عبوديتها، ومنفلتا من سطوتها .. وجبروتها ! يا حليل تلك النوتة، ويا حليل زمن البريد !