الحنين طاقة .. مثل الكهرباء، نحسه، ولكن لا نراه، يشعلل قناديل الشوق في دواخلنا، لكن لا أحد يحس بضيائه سوانا ! قبل أيام قادتني قدماي لمراتع الصبا، منطقة السكة الحديد في الخرطوم، حيث الطفولة الباكرة، وسنوات الدخول الأولى لمرحلة الشباب. عقود طويلة فصلتني عن تلك الأمكنة، ولذلك كان التوقف في تلك المراتع، استسلاما لرغبة طاغية، وحنين جارف، لمعرفة ما فعل الزمان بأماكن الزمن النضر، وما استجد من معالم على الأمكنة الريانة بأندى الذكريات. الجولة كانت عالما مدهشا من الأحاسيس، وشعرت بأن كل طوبة أو حجر أو حصاة في المكان .. تعرفني، وتهلل للفتى الشائب العائد لها بعد عقوق السنين! والسكة حديد حي مجاور لمنطقة الخرطوم ثلاثة، ويقع في الناحية الشمالية منها، كما أن حي الخرطوم 2 قريب أيضا من السكة حديد، ويقع في الناحية الشمالية الشرقية، وقد جمعتنا بسكان الحيين المذكورين كثير من الصلات المشتركة، وزاملنا أبناءهم في الدراسة في مدارس المنطقة، سواء في الاتحاد الأولية، أو مدرسة حي عبد المنعم الأولية، أو المدارس الأعلى وأهمها مدرسة الخرطومالجديدة الثانوية، والتي كانت أيام طفولتنا الباكرة .. مدرسة فرنسية، لتصبح لاحقا منشأة تابعة للتعليم السوداني ! حي السكة حديد حدث له ما حدث، وتلك قصة سبق أن كتبت عنها، لكن جولة الأقدام في الخرطوم ثلاثة كانت أكثر دهشة، فلقد اختفت كل المعالم الكبيرة التي ظلت معشعشة في الذاكرة، فلم تعد دكاكين الخرطوم ثلاثة موجودة، واشرأبت بالمنطقة عمارات وجوامع ومنازل فخمة وشاهقة، غاب دكان (ميرغني) الذي كان يعج بحركة المرتادين وطالبي (الفول)، ووجدت المتجر ما زال في محله .. لكنه مغلق، وكئيب، بعد أن انفض سامره، وبعد انتقال صاحبه المريخابي الودود (ميرغني) إلى الرحاب الأعلى، رحمه الله وأحسن إليه. شعور غريب انتابني، فقد أحسست بأن المسافات بين الأماكن قد تقلصت، فقد كنت أقطع المسافة الفاصلة بين منزلنا وميدان عبد المنعم، والذي شهد تغييرات أبرزها تحوله إلى (نادي الأسرة) .. كنت أقطعها في عشر دقائق أو ربع ساعة، فإذا بها الآن تتحول لخطوات قليلة، لا تستغرق سوى خمس دقائق !! لا أعرف إن كانت الدنيا تنكمش .. وفق ما تزعمه بعض النظريات، لكن الواضح أن (أمتار) المنازل لم تتقلص، و(ياردات) الشوارع لم تصغر، فلم نسمع بأحد من سكان تلك الأحياء يتقدم بملاحظة من هذا النوع، ولذلك يبقى التفسير الوحيد، هو أن الإحساس بالمسافة قد تغير، خصوصا وأن خطوات طفل السابعة، ليست بطول خطوات رجل اكتمل نموه العظمي والحركي ! غابت الكثير من المعالم .. دكان علي، دكان الحوري، دكان القبطي المحبوب (نملة) .. الذي فارق الحياة باكرا ليبكيه كل عارفيه .. غابت تلك المعالم، وحلت محلها معالم أخرى، أكثر حداثة، وأجمل مظهرا، لكنها خاوية من الذكريات .. ذكرياتي وذكريات أبناء جيلي، مع أنها قطعا تمارس سطوتها، في أفئدة صغار أتوا للدنيا، يصنعون الآن ذكرياتهم الخاصة، ليسترجعوها يوما ما إذا بلغوا من العمر ما بلغنا. الحنين طاقة .. ولا يعرف نورها ونارها .. إلا من يكابدها ويسلك دربها !