عمنا "محمد مصطفى جبارة" شهد أحداثاً مهمة بحكم واجبه كمصور بقوات الشعب المسلحة، وبعد حوالي نصف قرن من الزمان يبدو هادئاً كمزارع من الريف بطلعة الآباء في استراحة الحياة، بلون القمح، وقامة متوسطة، وشيب خجول، وملامح عادية، وذاكرة قوية.. هو ابن رائد السينما "جاد الله جبارة" وشقيق السباحة المشهورة "سارة جاد الله".. وحالياً يعمل "محمد مصطفى" في مجال الإنتاج الفني، وقال إن ماضيه مجرد واجب قام به وليس جزءاً من أي أحداث، ولا يحتفظ بأي نوع من تلك الصور لإعدامات الزعماء العسكريين والسياسيين لكونها أسراراً عسكرية.. شهد ضربة الجزيرة أبا، وأكد أن من ماتوا جاءوا من أقاصي دارفور وليسوا من أهالي أبا، وكانوا مسلحين وليس مجرد مدنيين. { مصور الإعدامات السياسية يجلس مرتاحاً على كرسي تحت شجرة ب (حلة حمد)؟ - دي حال الدنيا.. ناس تمشي وناس تجي. { عرِّف القارئ بنفسك.. على الأقل هذا الجيل لا يعرف عنك شيئاً كثيراً؟ - أنا "محمد مصطفى جاد الله جبارة".. من مواليد العام 1946م.. من طلاب الدفعة (20).. كنت رائداً وتركت الجيش برغبتي. { ولماذا دخلت الجيش لتتركه هكذا برغبتك؟ - دخلت الجيش عشان أصحابي، واستمررت (19) سنة وكانت فترة خصبة. { إذا عدينا السنين صاح.. كنت في عهد "النميري" تعمل بكثرة؟ - شاركت في انقلاب "النميري" ضمن حامية الخرطوم، وكانت الأجواء سلمية ومهمتنا تأمين المنشآت. { وبعد المشاركة في انقلاب "النميري" أين كانت الوجهة؟ - ذهبت إلى الجبهة للقتال مع المصريين، وذهبنا للجنوب ومن ثم للجزيرة أبا. { أنت إذاً شاركت في ضربة الجزيرة أبا؟ - هناك تناقض في كلام الناس بخصوص ما حدث، والأصل أنه لم يحدث اصطدام بين الجيش والأنصار، المواجهة الوحيدة في كوبري (الجاسر)، وكانت مع قوة مسلحة وليس مدنيين عزل. { لماذا لم يتم التفاوض مع قوات الأنصار في (الجاسر) وأنت كنت ضابطاً؟ - كوبري (الجاسر) هو المخرج الوحيد، والإمام "الهادي" نفسه خرج منه، وضربنا القوة لأننا كنا مشحونين بأحداث ومجزرة (ود نوباوي). { هل قمت بتصوير قتل مواطنين عزل؟ - لم استطع تصوير كل المشاهد، واذكر أن أنصارياً هجم على دبابة بحربته راكباً حصاناً وانغزرت حربته في بطنه. { وبعد كل هذه السنوات اكتشفت أن الهجوم على الجزيرة أبا كان خطأ فادحاً؟ - (مافي زول عاوز يبيد الأنصار دا كلام ساكت). { ماذا حدث؟ - دافعنا عن أنفسنا ونحن قوات الشعب المسلحة، وأنا أنصاري.. بعد معركة (الجاسر) مكثنا عاماً كاملاً بنينا فيه مدرسة. { ما صحة رواية (سيدي قلبها موية)؟ - بالفعل سقطت قنابل دون أن تنفجر، لكن السبب أنها قنابل بدون (تيلة) أُسقطت بالانتنوف، واندهش الناس حينها لأنه لم تنفجر أية قنبلة على الإطلاق. { كم كان عدد قتلى (الجاسر)؟ - من (30 - 40) قتيلاً، وكلهم من عمق الغرب وليسوا من سكان الجزيرة أبا. { وأنت من قام بتصوير مجزرة بيت الضيافة؟ - كان مشهداً للعذاب بشع.. بشع.. بشع.. ومنذ ذلك الزمن حتى الآن حينما أشم رائحة (المورفلين) أتذكر موتى بيت الضيافة. { كيف كانت أوضاعهم؟ - (مجدعين دا فوق دا)، منظر بشع لضباط أحرار. { أين كانت مواضع الضرب؟ - في أي مكان تتوقعه، في الصدر، والبطن، والرأس، والأيادي، والأرجل. { هل تعرّفت على أي أحد ولمسته مثلاً؟ - لا.. لا.. لا (مستحيل)، الموقف كان فظيعاً، وكانت الصدمة قوية (نحن ذاتو ما كنا عارفين نعمل شنو). { هل نمت جيداً في ذلك اليوم؟ - (ما ممكن طبعاً).. مجزرة بيت الضيافة ما زالت في خيالي كأنها وقعت البارحة. { كنت شاهداً على تنفيذ حكم الإعدام في الرائد "هاشم العطا" و"فاروق حمدنا الله".. ماذا حدث؟ - ديل أول من حُكم عليهم بالإعدام رمياً بالرصاص في تلك الأيام العصيبة. { كيف كانا في اللحظات الأخيرة؟ - للتاريخ، كانا ثابتين وشجاعين، وقفا في (الدروة) بدون حبال ولم يعصبوا لهما عيونهما. { ما هي آخر كلماتهما التي سمعتها؟ - كان "فاروق" يردد (نحنا ما شيوعيين) ويقول الشهادة كاملة (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله). { و"هاشم" ماذا كان يقول ويردد؟ - بنفس الطريقة ينطق الشهادتين.. كانت عيونه نظيفة وفيها بريق العساكر، شامخاً في قامة بارزة أطول مما نتوقع. { وماذا كان يردد ويقول غير الشهادة؟ - (نحنا ضباط جئنا لإنقاذ البلد). { هل كانا يتبادلان - (هاشم وفاروق) - أي حديث ولو بالعيون؟ - أغلب الظن أنه كانت روحهما واحدة، وكانا مشغولين بالوقت الصعب (دا إعدام يا ولدي). { ما نوع المناخ الأخير من حولهما في تلك اللحظة الصعبة؟ - الكل صامت، وعشرة من العساكر يجهزون طلقة داخل كل مسدس، وكان للهواجس صوت مسموع، والرهبة سيدة الموقف، الحركات محسوبة والأنفاس والأفكار. { هل تبادلا أي حديث مع العساكر؟ - "فاروق" أخبر أحدهم بذكرى بينهما.. قدم له "فاروق" خدمة ومساعدة. { لماذا تعطى (9) طلقات حية وواحدة (فشنك)؟ - مراعاة لنفسية المنفذين، وحتى يظن أي واحد من العشرة أنه صاحب الطلقة (الفشنك) وبريء من الدم الذي سُفك. { هل ماتا مباشرة بعد الطلقات الرسمية المحددة في التنفيذ؟ - "هاشم" مات مباشرة، لكن "فاروق" سقط ولم يمت (وتموه وهو على الأرض بطلقة إضافية). { وفي زمن وجيز انتهى كل شيء.. "هاشم" و"فاروق" الضابطين في الجيش السوداني؟ - تفرقنا وكأننا لا نعرف أي شيء في الدنيا، كانت لحظات عصيبة.. عصيبة.. عصيبة. { "عبد الخالق محجوب" سكرتير الحزب الشيوعي نال من ذات القدر وأُعدم (كيف كانت حكايته)؟ - هذه حكاية أشد ألماً من الأخريات، لأنه سياسي محنك، وأتذكر كالبارحة تماماً كيف جاءوا به بالجلابية، كان (حفيان) وعليه آثار سهر طويل، ومع ذلك كان متماسكاً جداً وتفكيره أبعد من قدر المشنقة، نحو أفق بعيد. { هل أُعدم بهذا الشكل.. بالجلابية و(حفيان) عليه بقايا سهر وتعب طويل؟ - طلب فرصة للحلاقة ولبس (هدوم) جديدة وطلب سيجارة، كان ينظر بعمق لمآلات غير معروفة، وكان يبدو أكبر من الحدث وكأنه شيخ طريقة أو قديس جراء الثبات والتجرد. { ما هي آخر كلماته؟ - نطق الشهادة وكان يجيب عن السؤال: مشترك؟ (لا ما مشترك)، وردد أكثر من مرة (عاش السودان حراً مستقلاً). { كم كانت ساعة الشنق نهاراً أم ليلاً؟ - كان في يوم الجمعة الساعة الرابعة صباحاً والمطرة (شغالة). { كان ثابتاً بحضور ضباط كبار (مش كدا)؟ - كان ثابتاً وكلنا كنا ضباطاً صغاراً، لم يحضر شنقه أيٍ من الرتب الكبيرة، وكنت أنا لابس ملكي. { هل تشهّد أم طلب منه الشهادة؟ - تشهد بإرادته، لكن كان يمكن أن يطلب منه الشهادة حسب تقاليد التنفيذ. { كان كل شيء هادئاً؟ - كان التنفيذ منظماً عكس ما حدث في إعدامات "الحردلو" و"أحمد جبارة"، لم يكن إعدامهما منظماً، أُعدما على طريقة كيفما اتفق. { نجيء ل"حسن حسين" في 76 كيف أُعدم وما حكايته؟ - ضُرب واُدخل المستشفى، ولم يفشل الانقلاب وعمل كل شيء صاح، لكن "النميري" محظوظ. { كيف كان "النميري" محظوظا؟ - قبال شهرين كانت هناك تجهيزات عسكرية في كرري للكتيبة (20) مجهزة بالذخيرة الحية، حوالي (15) دبابة (62t) أقوي دبابات في ذلك الزمن. { أين الحظ.. لم تربط الأشياء حتى الآن؟ - الدبابات هي التي هزمت "حسن حسين" لأنه كان يملك دبابات صغيرة تحمل مدفع (76)، وتلك تحمل مدفع (105). { نرجع لأجواء المستشفى وكان "حسن" جريحاً هناك.. ما الذي حدث؟ - جاء "النميري" وكان يسأله: لماذا قمت بالانقلاب ألم أفعل لك كذا، وكذا، وكذا؟! { ما هي إجابات "حسن حسين" للرئيس في المستشفى؟ - كان يقول له: نعم يا ريس، وأظنه يذهب بذهنه بعيداً ولا يهمه ما يحدث أمامه. { هل كان منهاراً لأن انقلابه فشل؟ - سبب الانهيار أنهم غدروه. { من الذي غدره.. هل تحدد أسماء؟ - لا استطيع ولكن في واحد ضابط اسمه "كمال" قال له أنا معاك، وحينما سمع صوت "أبو القاسم" ضرب "حسن حسين" بالرشاش لكي يثبت براءته. { هل اعتذر للرئيس؟ - اعتذر، ولكن كما قلت لك لم يكن يهمه شيء في الحياة، لقد تساوت عنده كل الأمور. { هل شممت رائحة (المورفلين) ونحن نقلب معك الذكريات الأليمة؟ - رائحة (المورفلين) لن تنتهي من أنفي أبداً، وحتى الآن إذا دخلت المشرحة لأي سبب تأتيني تلك الأيام بكامل الصورة. { كنت جزءاً من الأحداث؟ - أنا لست جزءاً من هذه الأحداث، بل أنفذ الأوامر وأوثق الأحداث للتاريخ ولجيلكم كما ينبغي. { هل قرأت عن الأحداث التي شهدتها بنفسك وصورتها بالكاميرا الألمانية (lika)؟ - للأسف، كل زول كتب وفقاً لهواه ولصالح ورقه. { أين ضُرب "حسن حسين"؟ - في رجله وبطنه (3) طلقات. { كنت أنت في لجنة تحقيق تلك الأحداث.. إلى ماذا توصلتم؟ - توصلنا إلى أن انقلاب "حسن حسين" كان بروفة لشيء قادم أقوى، وبالفعل كانت المرتزقة، لذلك أول ضربة كانت لحامية كرري التي عطلت انقلاب "حسن". { قلت إنك لست جزءاً من الأحداث ومع ذلك موجود في لجان التحقيق عن الأحداث.. كيف تفسر ذلك؟ - دا واجبي، وأنا قمت بواجبي بس. { هل تحتفظ بصور تلك الإعدامات السياسية والعسكرية؟ - (من وين؟) دي أسرار عسكرية، ولا احتفظ بأية صورة من ذلك النوع. { ما هو نشاطك في الوقت الحالي؟ - أمتلك أستوديو فخم لتصوير الأفلام والمسلسلات، وأقضي معظم يومي بين الأستوديو والبيت ب (حلة حمد). { ما هو رأيك في الممثل السوداني وأنت تصور الدراما؟ - الممثل السوداني (كويس) لو وجد التوجيه. { هل يجيد الممثل الوقوف أمام الكاميرا؟ - أعتقد أن هناك مشكلة للممثل السوداني في هذا الجانب، وأحياناً (يكون دا شغل مخرجين). { ما المسلسل الذي ندمت على تصويره؟ - مسلسل (عثمان دقنة)، وكانت اللهجة بالمصرية والأزياء غير مناسبة، وكل التكاليف لم تكن في محلها. { من تتذكره من الذين حضرت إعدامهم؟ - كلهم.. كلهم.. كلهم.