صديقي الفنان .. صاحب الصوت الشجي .. ما انفك طوال سنواته .. جفولا من كل عاطس، بسبب خوفه المجنون من نزلات البرد ! الرجل يأكل عيشه من صوته، وسبق أن قلت لقرائي منذ سنوات بأن صاحبي إذا سمع مجرد السماع بأن شخصا قد أصيب بالزكام والأنفلونزا في المدينة .. فإنه يطير منها في أول رحلة إلى مدينة أخرى .. إلى حين انجلاء العاصفة ! ونزلات البرد، والتي يحلو لها التجول في مثل هذا الوقت من العام، يتم تبادلها بكل الأريحية بين الناس، بسبب المصافحة، والعطاس في الهواء الطلق، والكحة الداوية دون ساتر، واستعمال الأدوات المشتركة بدءا من مقابض الأبواب، مرورا بأجهزة الموبايل، وانتهاء بالبشاكير والأغطية والمناشف وغيرها . لكن عدوى النزلات تتم بسبب ملموس، وهو انتقال جراثيم المرض من المريض إلى السليم، ولذلك نستطيع (فهم) المرض والاحتياط منه، كما نستطيع معرفة آلية انتقاله، وهي حالة علمية عقلية لا مجال في المغالطة حولها . لكن العدوى لا تقتصر على انتقال الجراثيم والفيروسات، فهناك أشياء تحدث عن طريق العدوى .. دون أن يكون هناك سبب جرثومي أو فيروسي، مثل انتقال المشاعر الحزينة بين الباكين، حيث تسيل الدموع مدرارا فقط بسبب سيلان دموع الآخرين، وهذا ما يفسر السر في كثرة الباكيات في المآتم، في حين تكون غالبيتهن لا يعرفن المرحوم أو المرحومة .. ومع ذلك يسكبن الدموع الحرى بسخاء لا ينقطع ! أصحاب الملاحظة العادية .. يعرفون أيضا أن التثاؤب شديد العدوى، ويكفي أن يتثاءب المعلم في الفصل، لتنفتح الأفواه كلها على أثره، فما أحيلى التثاؤب والنوم .. على إيقاع الدف الرتيب .. ما دام المعلم ضاربا له ! ورغم أن التثاؤب ليس دلالة على النعاس، وفقا لبعض النظريات، لكنه كثيرا ما تسبب في تعرضنا للعقاب المدرسي، وما زال العديدون يفقدون حماستهم للكلام، حتى لو كان كلامهم من النوع الجاذب المفيد، إذا رأوا مستمعيهم يتثاءبون، فيمتلئون احباطا، ويسارعون لتغيير الموضوع ! آخر أخبار العدوى، أن باحثين وجدوا بأن عدوى (الحكّة) أسرع من عدوى التثاؤب، وكلاهما من نوع العدوى الغامضة التي تتفشى بما يشبه الانتقال اللاسلكي . الدراسات التي نُشرت في المجلات الطبية المتخصصة بإشراف مختصين من مراكز بحثية و كليات جامعية في بريطانيا، أشارت إلى أن ثلثي الناس يقومون بحك أجسامهم بعد مشاهدتهم لشخص آخر يحك جسمه، وتم إجراء تجارب عملية على الموضوع، كما تم ملء استبانات استفتائية طبية لرصد هذه الحالات، والوصول للنتيجة العجيبة. العلماء أرجعوا السبب الغامض في عدوى الحكة لارتباطها بطريقة التعبير عن المشاعر، لكنهم اكتفوا بالتبرير القابل للدحض طبعا، دون أن يقدموا شيئا باهرا سوى الملاحظة نفسها .. بتفشي الشعور بالحكة .. حالما يبدأ أحدهم في فرك أنفه أو حك رقبته أو حتى ظهره ! أظن أن سلوكيات كثيرة تنتقل بالعدوى، كالتظاهرات، والابتهاج الجماعي، والمرح في المسارح، والغضب في وسائل المواصلات العامة، وحتى الفقر والفساد وأخطاء السياسة وانهيارات الاقتصاد كلها تزداد انتشارا بالعدوى. صديقي الفنان لن يكترث لأي عدوى غير نزلات البرد، لأنها توقف حفلاته .. في زمان لا يرحم أحدا ! الحافظ الله !