من قال إن الصحفيين وكتاب الأعمدة يعرفون كل شيء ؟ صحيح أنهم يسعون للمعرفة، لأن المعرفة تعينهم على أكل عيشهم، لكن معرفة (كل شيء) تبقى أمراً مستحيلا .. شأنهم شأن الآخرين في كل ضروب المعرفة ! بالأمس فوجئت بمعلومة لم تدر بخلدي، وهي أن السودان يصدر الأسماك، وكنت أظن أن الأحاديث عن ثروتنا الحيوانية التي نصدرها حباً في الدولار، يمكن أن تشمل كل شيء .. إلا السمك، فلم يطرأ ذلك على بالي أبدا ! الخبر في عمومه .. أشار إلى أن وزير الثروة الحيوانية والسمكية والمراعي فيصل حسن إبراهيم .. قال إن عائد صادرات الثروة الحيوانية والسمكية حتى نهاية نوفمبر من العام الحالي حقق أكثر من (405) ملايين دولار بالإضافة ل(2,428,739) يورو و(4,251,228) درهم إماراتي . الخبر بهذا الوضوح، يشير إلى أن أسماكنا ضالعة في لعبة التصدير، وتساهم في إيراد الدولارات التي لا نراها إلا في السوق الموازي، حيث تدخل إلى الخزينة من الباب، لتطير بسرعة الصاروخ من الشباك !! تصدير الأسماك أمر يستقيم عقلا، فنحن أصحاب ساحل بحري يمكننا من خلاله أن نغذي العالم من خير مياهنا المالحة، كما أننا أصحاب (نيل) وأنهار دائمة وموسمية، وكلها تأتي بخيراتها السمكية، ومع ذلك .. لا تبقى للسودانيين فرصة للتنعم بأسماكهم .. إلا بشق الأنفس ! غير مهم أن نحظى بالسمك ونتلذذ به كلما احتجناه، فكم من الأشياء التي نحتاجها ونحرم أنفسنا منها قسرا في هذا الزمان (!)، لكن المهم، الذي لا نعرفه، هو أين تذهب هذه الموارد الدولارية بالضبط ؟ فالسودان رغم كل شيء يستجلب الدولار عن طريق الذهب، والثروة الحيوانية التي يدخل من ضمنها الثروة السمكية، والمغتربين الذين يدفعون الضرائب والزكوات في السفارات بالعملات الأجنبية .. ثم يأتون بمدخراتهم في الإجازات، والمنظمات التي تملأ السودان من كل شكل ولون، والأجانب الذين تعج بهم البلاد بدءا من السفارات وانتهاء بالشركات العاملة في مجالات متعددة كالسدود والتشييد والخدمات وغيرها. نعم .. تعددت المنافذ التي يأتي منها الدولار، وحتى السمك لم يقصر ودخل ضمن العناصر المدرة للعملة الأجنبية، ومع ذلك .. لا أثر للدولار في بنوكنا، ولا وجود للدولار إلا في برندات الأسواق، وبوابات المطار حين يدلف منها القادمون من الخارج لقضاء الإجازة بالوطن ! الآن ربما يبدو هناك سبب وجيه لغلاء السمك، فكم تساءلت عن أسباب الدلال السمكي، رغم أن السمك لا يتغذى بالبترول، ولا يكلف الخزينة أي أعلاف أو أدوية بيطرية، ولا يستهلك أي كهرباء، ولعل السبب هو تحول جانب منه للتصدير، إكراما لعيون الدولار، فاستعصت أسماكنا على الخاطبين لودّها، مثلما استعصى الدولار الآتي من تصديرالسمك على طالبيه من المنافذ الرسمية ! نحن نريد الدولارات، وخزينتنا تعاني من الجفاف في العملات الصعبة، والمواطن لا يحظى بالدولار من المصارف بالأسعار المعلنة .. فيضطر إلى السوق الموازي بأسعاره التي تفضح القيمة الحقيقية لجنيهنا العزيز. إن كان الدولار غير موجود رغم حرماننا من لحوم ماشيتنا وأسماكنا، وإن كان الغلاء والندرة سمة للدواء والخدمات والسلع بسبب شح الدولار، إذن ما حاجتنا بالتصدير؟ اتركونا نستمتع بالضأن والسمك، فخير أن نحظى ببعض الشيء .. من أن نحرم من كل شيء !