في زمان ليس ببعيد، كان للسفر متعة ولوعة، ورغم بدائيته عبر (اللواري) التي تقطع الفيافي، تغوص إطاراتها في الكثبان الرملية لا يقتلعها منها سوى (الصاجات) الملازمة لتلك الماركات (شبه المنقرضة) من وسائل النقل والمواصلات، والتي إلى جانب غرضها الرئيس كانت ملاهٍ ليلية تلهم الشعراء القوافي الندية والألحان الشجية، التي لا تتأتى لصاحبها إلا في هكذا (أجواء)، وببلوغه مقصده يكون بحوزته عدد من الأشعار، هذا إلى جانب السفن التي تمخر البحر أياماً عدداً، الأمر الذي يؤلف بين قلوب الكثير من المسافرين حد التزاوج والتصاهر، ولا يفوتنا في ذلك، الإشارة إلى ذلك القطار الذي كان حينها وسيلة المواصلات الأكثر انتشاراً. إلا أنه ورغم تلك المتعة كان السفر في تلك السنوات يشكل هاجساً مليئاً باللوعة والحرقة على فقد أعزاء ولو إلى حين، وهذا ما دفع بالشعراء إلى تشكيل وصياغة وتصوير كل تلك المشاعر في كلمات معبرة. { لوعة وحزن واستجداء وعلى سبيل المثال لا الحصر، تغنى المرحوم " أحمد المصطفى" ب(سفري السبب لي أذاي) للشاعر "حسن أبو العلا" التي تحتشد بلوعة الفراق والحزن على ما حدث له في الغربة وبعيداً عن الأهل والأحباب، وهنا لا بد من الإشارة إلى أغنية "حمد الريح" التي تنضح أسى وشجن (حليلو قال ناوي السفر.. كيفن نسيبو يروح بعيد في رحلة مجهولة الأمد يا حليلو)، مع ملاحظة أن الرحلة هنا مفتوحة ولا يعلم متى سيعود منها الحبيب، ولعل هذا ما يخشاه نظيره الذي قال (سافر زمان قبال سنين لا جاب جواب لا جاب خبر)، فيما استجدى الشاعر الكبير "اسحق الحلنقي" بمساعدة من حنجرة الفنان "إسماعيل حسب الدائم" المحبوبة (ربما الأم مثلاً) طالباً رضاها وهو يعد حقائبه للسفر: (أديني رضاك قدامي السفر.. أنا كان غلطت عليك بكلام.. تشيل في خاطرك مني حرام.. أنا غير بسماتك ما بقدر.. أديني رضاك قدامي السفر) وها هو "الحلنقي" يفرد مساحة أخرى لشجن السفر والغربة ل(تتفسح) فيها حنجرة الفنان "محمد الأمين" فيصدح: (جيناكم يا حبايبنا بعد غربة وشوق.. نغالب فيه ويغالبنا.. نكتم آهة.. تظهر آهة تتعبنا). ولم يكتف (الحلنقي) بطرح معاناته الوجدانية ومغالبته للأشواق، بل عرج إلى تفاصيل أكثر وجعاً ولوعة، حد تأوه القلوب وتسارع دقاتها في بلاد الغربة: (هناك غربتنا ما هنتنا يا حلوين.. الهم بدل واحد يبين همين.. وفيها قلوبنا تتأوه سنين وسنين.. مصيرو الحي يلاقي لو صادقين). وها هو "فضل الله محمد" يمنح "أبو اللمين" نصاً آخر للسفر، تذكرة مكتوب على ظهرها شعر مدعوم بقسم غليظ: (قلنا ما ممكن تسافر.. نحن حالفين بالمشاعر.. لسه ما صدقنا إنك بجلالك جيتنا زاير.. السفر ملحوق ولازم إنت تجبر بالخواطر) { تحطم قطار وانفجار في أعماق الحبيبة وفي سياق بلاغي رفيع، سافر الشاعر مجازاً في عيون محبوبته، ورحل فيهما مقتفياً أعماقها حد تمنيه أن يجدها عاطفة متفجرة: (أسافر في العيون وأرحل.. وأفتش جوه في الأعماق.. ألقاك عاطفة تتفجر.. أقول أنساك وعارف إني ما بقدر). ولم ينس المنشدون والشعراء إدراج وسائل السفر، وكان للقطار ومحطاته نصيب الأسد منها لارتباطه الوثيق وقتها بالسفر والوداع والفراق، منها أغنية البلابل (قطار الشوق متين ترحل تودينا نزور بلداً حنان أهلها ترسى هناك ترسينا؟). ومن منا لم يغن أو يطرب أو يسيل دمعه مدراراً مع المرحوم "الشفيع"، وهو يترنم ب(القطار المر فيه مر حبيبي بالعلي ما مر.. يا الشلت مريودي.. القطار يتهادى حل بوادينا.. يلا نجري نشوفه المن زمان ناسينا). أما الشاعر "ود القرشي" فقد صب لعنته وجام غضبة على القطار الذي استقلته المحبوبة وسافرت على متنه، حتى دعا عليه ب(الدشدشة) وهي مفردة شعبية تعني التحطيم أشلاءً متناثرة: (يا القطار تدشدش.. يا الشلت مريودي). { (قمرات نومو تسكنها أم دقيقة) أغنيات السفر لم تستسلم لأقدار الأسفلت والسكة الحديد، بل (تلجلجت) ومخرت مع السفن في عرض البحار ومجاري الأنهار، وقد كانت المراسي تشهد تدافعاً من المودعين جيران وأهل وأحبة، منهم من يتجاسر ويذرف الدمع، ومنهم من يعتصر ألمه وفي القلب حسرة، وهنا تجلت (جِرسة) الشاعر "علي عبد الله محمد خير" وهو يصف محاسن الباخرة الشهيرة (الجلاء) أجمل البواخر النيلية العاملة في بين مصر والشمال ويعقد مقارنة مع رصيفاتها (عطارد، كريكان والزهرة )، في أجمل حلة وصورة، مع أنها حملت في جوفها محبوبته ومخرت بها بعيداً، فقال مخاطباً صديقه الشاعر "حسن الدابي": (ود الدابي مالك ساكت ما شفت الجلا السواها.. شال محبوبتي سافر بيها.. كيفن عاد بعيش لولاها.. بابور البحر مو عارفي شايل أعز زول جواها.. ما هماها حالي البي ما دام نورها وضواها.. تشتكي بالعلي عيوني أهملها ما سمع شكواها). فرد عليه صديقه (الدابي) تحيته بأحسن منها قائلاً: (صحيح يا عبده أخوي قولك حقيقة.. كتير الطفشها (الجلا) من فريقها.. يزازي نقل سميحات الخليقة.. ورنين صفارتو نفسي أبت تطيقها.. أتمنى في دابة غريقها.. تختل فيها ما تفضل شقيقة.. تطير ريشاته منها بفريقها.. وصميم مكناتو تلتهمو الحريقة.. قمرات نومو تسكنها أم دقيقة).