للقلب أحكام لا تخضع لمعاير العقل ولا تحتكم له، فالقلوب تؤمن بحكمة وميزة لامركزية الحب مثلها مثل ضل الدليب ترمي بعيدا دون حساب لجغرافية مكان المحبوب، فالمدن الكبيرة كالخرطوم الجاذبة لأهل الريف، تكون الجامعات فيها ومجالات العمل وسيلة تعارف للقادمين من شتى أنحاء البلاد، فمثلا قد تربط سهام كيوبيد بين الشاب القادم من شندي للعمل في الخرطوم بزميلته القادمة من الأبيض دون أن يحسب القلب حساب السيرة من شندي للأبيض بتكون كيف؟!!، ولايقومان بدراسة جدوى للحركة المكوكية في المستقبل ومواسم الهجرة في الإجازات شمالا لأهل الزوج في شندي وغربا لأم العروس في الأبيض. ما قد لا يحسب حسابه الأبناء في جريهم خلف الحب الأعمى ينتبه له الآباء والأسر فيرفضون (الجهجهة) وراء النسابة الفي السفر، ففي واحدة من المدن المشطور فؤادها بين ضفتي النيل (كما وصفها وجدي الكردي) ويكون البنطون هو شريان الحياة الرابط بين شطري قلبها، أحس سعد بالدبيب يسري في أوصاله ليشكل له انتباهة القلق تجاه ندى إبنة عمه المقيمة في الضفة الغربية للمدينة، آثر سعد أن يدخل البيوت من أبوابها فذهب لمفاتحة عمه برغبته في الزواج من ندى حتى يحصل على موافقته الأولية قبل أن يخبر أباه وباقي الأسرة، ولكن العم أجابه بمنطق العقل قائلا: يا سعد ولدي إنت ود أخوي وبعرفك من يومك الولدوك فيهو وشلتك في كتفي ده.. يعني ماني داير أفتشك ولا أأصلك.. لكن ياولدي عليك الله شوف ليك بت تانية غير ندى بتي . أسقط في يد سعد وسأل عمه: يعني يا عمي ما داير تديني ندى؟ أجاب العم: يا سعد يا ولدي بتدورني أعرسها لي زولا من الشرق عشان كل يوم والتاني أطق مركوبي وأركب البنطون .. أقطع البحر ماشي جاي .. ده عرس وده بكا ؟!! دحين يا ولدي شوف ليك بتا من بنات الشرق عرسا. فهذا العم العاقل رفض النسب عبر البحار وكفى نفسه شر المساسقة وراء النسابة. ومن ألطف ما عشناه من قصص الحب العابرة للقارات، كانت تلك التي جمعت بين زميلينا العزيزين الكردي (ود أم درمان ) وفتحية القادمة من (الشريق) شرق النيل على تخوم البطانة، وبما أن الكردي كان كسيب وجيبو عمران فقد اتفقا على الإحصان وإكمال دراستهم متزوجين، وفي الإجازة ضرب آل الكردي أكباد العربات للشريق وبعد المقدمات من فتح خشم و سد المال، تحدد يوم الزفاف، وبتقدير المسافة تقرر أن تقوم السيرة بعد الغداء لتصل قبيل الغروب فالمسافة بين الشريق وأم درمان لا تتجاوز الساعتين، وما بين الزغاريد ودق الدلوكة تحرك بص السيرة بعد أن سبقهم العريس باصطحاب العروسة من الكوفير، ولكن بعد مرور الساعة والساعتين دون ظهور معالم الشريق، بدأ القلق يمسك بتلابيب الجميع وكثرت التسائلات: الحاصل شنو ؟ ليه ما وصلنا لسه ؟ اضطر السائق أن يعترف بأنه فقد الطريق بعد محاولته لسلوك الطرق المختصرة، علا الضجيج والتوجيهات: أخد شمالك .. وأعصر يمين.. وأحسن نرجع يا جماعة!! سكتت البنات عن الغناء وساد الوجوم المتوتر بعد أن انحدرت الشمس إلى المغيب وعم الظلام، صاح شقيق الكردي الجالس على (بنبر) في منتصف البص وقد كان (مرتاح في الصحة شوية)، اطلق اللعنات: الله يلعن الحب وسنينو، هسي مالم بنات الخرتوم ؟ ثم يلتفت للفتيات لصرخ فيهم : دقوا يابنات فتنقر البنات على الدلوكة قليلا ثم يعاودن الصمت ليعاود الصياح فيهم : غنوا يابنات .. الله يجازيك يا الكردي !! وفي الجانب الآخر في الشريق، أصاب القلق الكردي وأهل العروس فأرسلوا العربات للبحث عن بص السيرة (الرايح) في سهوب البطانة، وبعد أن أفلح البحث في العثور عليهم، عادوا بهم بعد التاسعة مساء وقد أخذ الاجهاد والخوف منهم كل مأخذ وأثناء نزولهم من البص أمسك أحد (الضهبانين) بتلابيب الكردي وقال: فتحية على العين والراس لكن بنات أم درمان ديل عيبهم لي !! لطائف - صحيفة حكايات [email protected]