؟! قديما كان للموت رهبة ومهابة وطقوس مقدسة لا يجب التفريط فيها، فعندما يحتضر المريض ويشارف على الموت، يتنادى الأهل والأقارب من كل مكان للوقوف بجوار الأسرة وحضور الوفاة ومن ثم إكمال واجب ستر الميت والعزاء، ولأهلنا في الريف همة و(شهمة) تجاه خبر الاحتضار، فعندما يصل الخبر: قالوا ليكم فلان تعبان ومستحضر للموت . يلغي كل صاحب حاجة حاجته وتؤجل الضروريات وتهمل المسئوليات وينطلق الجميع لحضور لحظات الميت الأخيرة. عندما احتضر كبير إحدى العوائل وشارف على الموت، نادى المنادي بأن: فلان متحدّر بالحيل ومصَنقع للموت . ف أسرع الأقرباء من (القبل الأربعة) وتجمعوا في بيت المستحضر انتظارا لخراج الروح، ولكن مر اليوم الأول والثاني والثالث دون أن يتوفى المريض، وفي نفس الوقت لم يطرأ أي تحسن في صحته أو بادرة (تخاير) .. أسقط في يد المنتظرين ففيهم من ترك زراعته ومنهم من همّل تجارته ومصالحه، ولكن طول الانتظار الذي صار بدون نهاية واضحة أو قريبة، جعلت جمع (المكسرين) يقرر الاجتماع على جنب، ليتفاكروا في مخرج من ذلك الحرج، وبعد (شيل وخت) اتفقوا فيما بينهم على (راي) .. نادوا أبناء المريض أو المرحوم - باعتبار ما سيكون - لاجتماعهم، ثم انتدبوا منهم من يبلغ (أهل الوجعة) بقرارهم فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: طبعا يا جماعة الموت حق والحياة باطلة.. وزي ما انتوا عارفين أنحنا فتنا قفانا أعوج ومصالحنا مهملة وزي ما بيقولوا في المثل الموت ما بتحارس .. دحين يا أخوانا أعفوا مننا .. أها الفاتحة !! وبعد قراءة الفاتحة على روح المرحوم المستقبلي آجروهم وانطلقوا عائدين ! بعد أن أفتى المكسرين من الرجال أنفسهم برفع الفاتحة في المرحوم مقدما و(قبل الهنا ب سنة)، غادروا لمصالحهم وتركوا خلفهم النساء ليواصلن (المحارسة) فليس لهن شغلة أو مشغلة، بل لعل (مناهن) كان أن تطول رقدة المريض، ففي طول (صنقعته) فرصة للانجقادة والتمتع بلمة (الجبنة) وفنكهة شراب الشاي .. مرت أيام حرصت النساوين فيها على ترك شغلاتهن كل يوم والتجمع حول المريض وقد تراصت صفوفهن على العناقريب ك (رصة) الطيور في أسلاك الكهرباء، حتى أذن الله وشاء للمريض بأن يتعافى ففتح عينيه و(انقلب) على جنبه، ففوجئ بصفوف النساء أمامه وبعشرات الأعين تبحلق فيه .. هب جالسا بسرعة وصاح فيهم: أها اتلميتوا فيني متل الصقور الراجيا الميتة .. قومن يا نسوان .. ما الموت ده أنا خليتو ليكن! ثم انتفض من سريره وانطلق خارجا بعد أن تركهن جالسات في وجوم. رغما عن وجود تلك النوعية من سريعي (النهمة) حتى الآن، المستعدين للتِكِسر حول المحتضر قبل أن يموت، إلا أن هناك بالمقابل نوع من التقاعس عن الإسراع لأداء الواجب خاصة إذا حدثت الوفاة في الليل، ولكن ما زال أهل القرى بخير فعندما يموت أحدهم يتم تبليغ الخبر عن طريق مايكروفون المسجد فيسرع الرجال لبيت الوفاة ويذهب الشباب للمقابر لتجهيز القبر وتجتمع النسوة لمواساة أهل الميت، أما إذا كان الوفاة لقريب في سفر، فهناك دائما من الرجال من (يتسدر) لايجار المركبة وتجميع الاشتراكات من جموع المسافرين للعزاء، رغم عن الظروف الصعبة ومعاناتهم في سبيل توفير حق اللقمة لاطعام الأفواه الجائعة .. وقد يجتمع رجال ونساء (الحِلّة) في حافلة أو بص واحد اختصارا للمصاريف، وقد تفرز النساء (عيشتهن) لأنهن يرغبن في المقيل وربما المبيت مع أهل الميت، على العكس من الرجال الذين - عادة - ما يكتفوا برفع الفاتحة وتناول وجبة إن وجدوا الطعام أمامهم قبل أن يعودوا بنفس المركبة .. صادفت وفاة شيخ (الزاكي) أربعاء وعقاب شهر، فتنادى أنسابه الذين يقيمون في أحد الاقاليم للسفر لاداء واجب العزاء، ولكن صادفت جامع الاشتراكات مصاعب جمة في جمعها لأن الكل (معلم الله)، وبعد مجابدة تم تجميع المبلغ وانطلقت العربة بالمعزيين .. وصلوا بالسلامة ورفعوا الفاتحة ثم أكلوا (ما قُسم) وفكروا في العودة لديارهم، ولكن أقلقهم سماعهم في (الفراش) خبر تحدر قريبهم حاج (عمران) وتدهور وضعه الصحي .. تفاكر الجميع وفاضلوا بين السفر من فورهم أو الانتظار حتى يتبين لهم أمر مريضهم، ولكن بما أن الموت (ما بتحارس) فقد قرروا السفر والعودة مرة أخرى اذا (نفذ أمر الله)، رغم مضاعفة التكاليف السفر مرتين لهموم جيوبهم المقدودة أصلا .. انطلقوا نحو حافلتهم وركبوها ولكن قبل أن يتحركوا بها لحق بهم أحد الصبيان وابلغهم بأن (حاج عمران أدا الروح)، فنزلوا من فورهم وتوجهوا نحو بيت البكا وهناك استقبلهم ابن المرحوم (خفيف الظل) والذي كان عالما بظروفهم .. رفعوا معه الفاتحة وما أن انزلوا أيديهم حتى قال: شنو ليكم ؟ أبوي ما ريّحكم ؟!! لطائف - صحيفة حكايات [email protected]