كنا خمسة سودانيين مبتعثين إلى لندن لدراسة إعداد وإنتاج البرامج التلفزيونية، وعند وصولنا الى مطار هيثرو كانت الدراسة قد بدأت، لأن مجموعتنا تأخرت في الوصول الى لندن بسبب محاولة انقلابية استهدفت حكومة المشير جعفر نميري أدت الى أزمة بين الخرطومولندن، وخرجنا من المطار ونحن لا نعرف \"منين يودي على فين\"، فما كنا نعرف موقع المكان الذي سنتلقى فيه الدراسة، ولم يكن هناك أحد في استقبالنا وبالتالي لم نكن نعرف اين سنقيم.. فكان ان قررنا التوكل على الله والبحث عن فندق يؤوي خمستنا، ولكن كيف؟ لم تكن هناك سيارة تاكسي تتسع لخمسة ركاب مع أمتعتهم، وكنا حريصين على التحرك والإقامة سويا، وكنا جميعا نسيء الظن بالخواجات وبالتالي ما كان واردا ان نتحرك بسيارتي تاكسي منفصلتين خاصة ونحن لا نعرف ما هي وجهتنا، وفجأة وقف أمامنا رجل أسمر نحيف وسألنا ما إذا كنا بحاجة الى وسيلة نقل، ثم قال لنا إن لديه \"فان\" تتسع لنا جميعا، وأنه سيساعدنا على العثور على فندق \"على قد حالنا\"، ولما رأى الشك في عيوننا من نواياه، قال لنا إنه صومالي فانفرجت أساريرنا، وركبنا سيارته وانطلق بنا الى وسط لندن ودخلنا منطقة بادينغتون فصار يتوقف ويدخل كل فندق على الطريق ثم يخرج إما لأن الأسعار مرتفعة و إما لعدم وجود غرف كافية.. للأمانة يجب ان أقول إننا كنا نبحث عن غرفتين فقط: واحدة تضمنا نحن الأربعة شبان وخامسة لزميلتنا سعاد، من باب ترشيد الإنفاق.. وأخيرا عثر على فندق بالمواصفات التي نريدها وأنزل أمتعتنا وتقاضى منا مبلغا اكتشفنا لاحقا أنه أقل من رمزي.. لهذا يقال ان الجنس على الجنس رحمة.. في عام 2007 كنت متوجها مع عائلتي من لندن إلى غلاسغو بالقطار وفي المحطة لم يوضع رقم قطارنا على اللائحة رغم أن موعد المغادرة صار وشيكا، وتوجهت إلى عامل بالمحطة آسيوي الملامح وسألته عن الرصيف الذي يقف عليه قطارنا، فأتى بعربة كهربائية رفع عليها أمتعتنا وركبنا معه فتوقف بنا أمام عربة الدرجة الأولى في القطار، فقلت له إن تذاكرنا على الدرجة العادية ولكنه واصل رفع الأمتعة ثم طلب مني وأفراد عائلتي الصعود وقال: هذه عربة أضيفت للقطار في آخر لحظة وليست عليها حجوزات وستبقون فيها بمفردكم طوال الرحلة بل لن يمر عليكم مفتش التذاكر، ولأنني وبحكم التجارب كنت أعرف أن العاملين في محطات القطارات والمطارات يتوقعون منك البقشيش نظير أي خدمة يقدمونها لك فقد أدخلت يدي في جيبي ولكنه نظر إليّ بغضب وقال: دونت دو ذات براذر.. لا تفعل ذلك يا أخي.. أنا مسلم كيني من أصل هندي واسمي عبد..... ويسعدني أن أقدم خدمة لعائلة مسلمة. بعد تجربة أول زيارة للندن للدراسة زرت العديد من البلدان في الشرق والغرب، واكتشفت أنه وبعكس ما يتخيل الكثيرون فإن الإنسان يزداد تمسكا واعتدادا بأصله ودينه كلما كان غريبا في بلد ما،.. الذين تجرفهم الثقافات والسلوكيات الأجنبية قلة قليلة،.. فمثلا رغم أنني أردد كثيرا أنني عربي بالتجنس والاستنساخ القهري، إلا أنني أؤكد انتمائي لكل عربي وكل ما هو عربي عندما أكون في بلد غربي او آسيوي خارج منطقة الشرق الأوسط.. والروابط بين المسلمين في المهاجر لا تعترف بالجنسيات أو اللون او العرق.. وعندما حتمت الظروف ان تنتقل عائلتي للعيش معي في لندن في عام 1994، كان جاري مسلما من تنزانيا، وكرس الساعات الطوال لمساعدتي في تسجيل عيالي في المدارس ثم شراء وترخيص سيارة.. وخلال أول زيارة لي الى لندن للدارسة وعندما عانينا من مشكلة الطعام لخوفنا من لحم الخنزير عرفنا مجددا كيف ان الجنس على الجنس رحمة من مصريين في منطقة فينسبوري بارك فقد كانوا يديرون مطعما لدجاج كنتاكي الذي كان بالنسبة لنا أهم اكتشاف في لندن، وصرنا زبائن دائمين فيه، لأنهم لم يكونوا يعطوننا سوى القطع الممتلئة لحما.. صدور وأفخاذ وفي أحيان كثيرة قطعة أو قطعتان \"بونص\" فوق البيعة وذات مساء دخلت عليهم وهم بصدد الإغلاق فأعطوني نحو عشر قطع دجاج مجانا لأن المحل وحسب قولهم يرمي الدجاج المطبوخ غير المباع بنهاية كل يوم عمل فعملت الزيارة المتأخرة للمحل \"شغلانة\" ونعمت بوجبات مجانية كثيرة. أخبار الخليج - زاوية غائمة [email protected]