لعله آخر إنجاز أدبي في العام الذي يلملم أطرافه إيذاناً بالرحيل، هو تدشين ديوان «أوراق سّرية» عن وقائع ما بعد حرب البسوس كما رواها حفيد «المهلهل بن ربيعة».. و لعل الحرب اللعينة والتي ما خف أوراها في دارفور هي الملهمة، خاصة أن بداية الديوان اشتملت على مقاطع شعرية عن مدن دارفورية دمرتها الحرب.. ولا أدري هل كان مقصوداً أن تبدأ كلها بحرف الكاف.. «كلبس.. كبكباية.. كرنوي.. كتم»، وكلها تبدأ بهتافات فاقعة ومأساوية فكلبس تبدأ بهتاف «رماد الحريق الذي في دمي» وكبكباةه تبدأ بهتاف »«أينعت بذرة الحقد حقلاً»، وكتم تبدأ بهتاف هو البوم في غابة الموت ينعق.. وكرنوي تبدأ بهتاف حارق طفحت ثم لاحت وفاحت لو أن الخطايا تفوح. واستوحى شاعرنا الفذ عالم عباس محمد النور.. كل قصص الفجيعة والغدر مستلهماً أول جريمة في التاريخ وعنونها هابيل يرثي قابيل.. بعض ما قاله القتيل في رثاء القاتل.. وبرمز آية في الإبداع كتب عالم حكاية شعرية بعنوان الثعلب العجوز والذئب. في قصيدته الأخيرة في الديوان «سفر القيامة» لخص عالم كل قصائد الديوان .. فكأنها تذييل شعري لما حواه الديوان من فواجع.. تبدأ سفر القيامة بتقرير مخيف: وطن آيل للغرق.. ثم يختم المقطع قائلاً.. والرماد يحاصرنا في الطرق.. حبال المشانق مجدولة والسيوف لجز العنق.. وسفر القيامة ست مقاطع ومقطع أخير حائر استلهمت حروف كلمة «السودان» هذا المقطع كان من حرف الألف.. وفي حرف اللام يصرخ: يا رياح الفواجع هبي فقد هدنا الانتظار.. ومقطع حرف السين يبدأ وتسأل من هؤلاء ومن أين جاءوا سراعاً إليك.. لا عليك.. راحل أنت وهم راحلون. وفي حرف الواو يصرخ محذراً.. الجذور الجذور.. ويختم قائلاً صديق العناء والمحن إن هذا فساد كبير.. ومنفى ليس هذا وطن.. في حرف الدال يقرر: صبرنا كثيراً على الضيم لكنه تسنم أكتافنا ورقص.. من حرف الألف يكتب بعض الوصايا الأخيرة التي يختمها بتقريره كذبنا عليكم كما يكذب الساسة الماكرون التجار وسُراق خبز اليتامى وقفنا على كل باب.. لنوصد أي احتمال لننجو.. لا سبيل سوي الموت كل المشارب مسمومة والخيارات مسمومة والديار خراب.. أما حرف النون فليس سوي نقاط فماذا بعد كون الديار خراب؟ يبقى سؤال ماذا بين هذا الديوان وقصيدة «أمل دنقل» أقوال جديدة عن حرب البسوس.. وقد كتب «أمل دنقل» عن اختياره لحرب البسوس و أشخاصها فقال.. حاولت أن أقدم هذه المجموعة حرب البسوس التي استمرت أربعين سنة عن طريق رؤيا معاصرة وقد حاولت أن أجعل كليب رمزاً للمجد العربي القتيل.. ويقول: وهذه المجموعة عبارة عن قصائد مختلفة استحضرت شخصيات الحرب وجعلت كلاً منها يدلي بشهادته التاريخية حول رؤيتها الخاصة عموماً.. فماذا أراد عالم عباس في ديوانه المُستلهم أيضاً.. ما بعد حرب البسوس.. ربما أمل دنقل كان يتحدث عن الصراع العربي الإسرائيلي وحروبه الدامية.. ويدين المصالحة التي قام بها السادات بينما عالم عباس استلهم الحكاية ليدين الحرب جملة وتفصيلاً.. وشتان ما بين بسوس أمل وبسوس عالم.. فهنالك ظلم ذوي القربى يتمثل في التصالح وهنا ظلم ذوي القربى هو ديدن الحرب اللعينة الدائرة الآن في السودان. تبقى كلمة أخيرة.. كان عالم عباس الأول الذي يدخل بالشعر إلى هذا المعترك فكان صاحب قضية كبيرة ومتفردة.. السؤال لماذا أهدى ديوانه أخيراً: إلى نيرون وهو يرقص على تلة من رماد روما المحترق؟ الصباح..رباح -صحيفة آخر لحظة