ليلة أمس الأول اصطحبت بعض أطفالي لزيارة المولد النبوي الشريف في ساحة مسجد الخليفة بأم درمان.. على الأقل من باب تسجيل الصورة الشعبية التراثية في ذكرياتهم.. الصورة التي أبدع رسمها شاعرنا الكبير محمد المهدي المجذوب في قصيدة المولد: (وردوا المولد بالشوق.. وعادوا بالغبار..) شيوخ الطرق الصوفية ومريدوهم تضج بأصواتهم مكبرات الصوت المتنافسة.. تلوث سمعي Audio pollution مهول.. الزحام دائماً حيث الحركة والرقص الرشيق.. بينما السرادقات التي يعظ شيوخها وحواريوهم ينصتون في هدوء لا أحد يقف أمامها.. صور كبيرة –جداً- للشيوخ وأسلافهم في صدر كل سرادق.. للدرجة التي سألني طفلي الصغير بمنتهى العفوية (هو دا مولد منو..؟) فقد التبس في ذهنه المُحتفِي من المُحتفَى به. في سرادق كبير وصلنا حينما كان الشيخ يهم بالخروج.. تسابق المحبون لإفساح الطريق لسيارة (برادو) فارهة.. واكتظ الناس من حول السيارة يحيطون بها في زحام كثيف.. بعض المحبين تعلق في السيارة من الخلف وآخرون تشبثوا بحوافها الجانبية بينما هرول ثلاثة أو أربعة أمام السيارة يفسحون لها الطريق في زحام الساحة.. في سرادق آخر.. وقفنا فيه أطول مدة.. المشهد كان مبهجاً لأنه بالضبط يحاكي اللوحة التي رسمها المجذوب في قصيدته الأشهر.. حلقة ذكر دائرية يقودها (المقدم) في حلة زاهية وخلفه الأتباع في ملابس ملونة يغلب عليها الأحمر. (وهنا حلقة شيخ يرجحن.. يضرب النوبة ضرباً فتئن وترن.. ثم تَرفضُّ هديراً أو تجن.. وحواليها طبول صارخات في الغبار.. حولها الحلقة ماجت في مدار) بصراحة منظرهم مبهج للغاية خاصة في استغراقهم الروحي العجيب بابتسامة مشرقة على الوجوه.. وتجاوب كبير من المتفرجين حولهم الذين يتراقصون على الإيقاع. (وحواليه المحبون يشيلون صلاة وسلاماً.. ويذوبون هياماً..) تمنيت لو أن الوقار يسمح لي بالدخول إلى الحلبة والرقص بكل عنفوان الجسد.. حتى تنفض الحركة جبال الهموم والمشاغل التي ينوء بحملها القلب.. فالرقص ضرب من العلاج النفسي. في الآونة الأخيرة.. تحولت مناسبة المولد النبوي إلى موسم عراك ديني بين الطرق الصوفية والسلفيين الذين يعترضون على مبدأ وشكل الاحتفال.. صحيح أن الطرفين يستبطنان حب المصطفى صلى الله عليه وسلم مع اختلاف النظر في ترجمة هذا الحب.. ولكن تبقى النتيجة أن الذكرى العطرة تحولت إلى عود ثقاب يحرق الآصرة والأخوّة ويحولها إلى عداوة وبغضاء.. عكس ما يدعو إليه الدين الحنيف وصاحب الذكرى المجيدة. الاحتفال بذكرى المولد النبوى يحتاج إلى (تطوير) برؤية عصرية تستوعب الغايات التي ينشدها الدين.. لتتحول إلى ذكرى حب: (رب أرسلت يتيماً.. قام بالحق رحيماً.. قد ذكرناه فهل نذكر من أمسى عديماً..).. فعجيب أن يتهادى المحبون في عيد (الفالنتاين!!) بالزهور.. ويتخاصموا في ذكرى المصطفى بالفجور. (ربِّ في موطني المسلم قد عدنا إليكا ما اعتمدنا ربنا إلا عليكا وذكرنا الهادي المختار ذكرى ملأت أرواحنا طُهراً وصبرا..) حديث المدينة - صحيفة اليوم التالي