ليلة اول امس الاول بنادي الضباط توقفت سيدة في الاربعين من عمرها وهي تمسك بيد طفلها الصغير الذى ارتدى تي شيرت ابيض طبعت عليه صورة للفنان الراحل محمود عبد العزيز، وخلفها مباشرة كان يقف رجل ستيني وهو يطوي بيده اليمنى صحيفة قديمة، بينما كانت يده اليسرى مشغولة بالتلويج بصورة كبيرة لذات الفنان الراحل، بينما غطى الشباب كل الامكنة والبراحات المحتملة لتفريغ الحزن عبر تلك الامسية التى خاصمتها البرودة بفعل فاعل هو في الغالب الاعم تجدد (الحزن الساخن) واسترجاع مرارات الرحيل. دقائق مرت حتى صاح شاب في اوائل العشرينات: (يامحمود والله بنحبك..حي ولا ميت..برضو بنحبك)..عبارة ذلك الشاب لم تحتاج لكثير عناء للفهم او تفسير، فهي تجديد طبيعي لميثاق الحب الذى وقع عقده ذلك الجمهور الضخم مع الفنان الراحل في شراكة فنية ربما نحتاج لوقت طويل لفك شفرتها، ومعرفة الدوافع الحقيقية لها، وربما سنحتاج لوقت اطول لنشاهد نسخة اخرى لها. الحضور الخرافي لمهرجان الرحيل الاول لذلك الفنان الشاب الاستثنائي بنادي الضباط، ربما كان ابلغ دليل على شعبية ذلك الاسمر النحيل الذى جاء لهذه الدنيا (زي اجمل غيمة وراح)، وربما كان كذلك دافعاً ومحفزاً للنقاد وللباحثين لفتح ملفات جديدة والتنقيب داخل حياته بشكل اقرب من السابق، ومحاولة سبر اغوار تلك العلاقة الاسطورية مابين كلا الطرفين. شباب..اطفال..نساء..كلهم كانوا حضوراً في تلك الامسية، وكلهم جاؤا وعلى اعينهم بقايا دمعة، وفي قلوبهم حب كبير ومتسع يفتح آلاف البوابات لعبور اسئلة متعددة اهمها: ماهو سر كل ذلك الحب الخرافي لذلك الفنان..؟؟..وماهو سر العلاقة مابينه وجمهوره..؟؟..هل هي بساطته..؟؟..ام دواخله الشفيفة..؟؟..ام موهبته التى اعترف بها العالم بآسره..؟؟..ام هو نوع جديد من الحب لم يتعرف عليه الشعراء والادباء وعلماء النفس بعد..؟؟ نعم...نحتاج لوقت طويل لنعثر على شبيه ل(حوتة) وعلى جمهور مثل ذلك الجمهور الذى عرف بين الناس ب(الحواتة)...ونحتاج كذلك لزمن اضافي لنتعرف على وجه العلاقة مابينهما، بل ونحتاج وقتاً اطول بكثير لنتعرف على فنان شاب يستطيع تحقيق نصف النجاح الذى حققه ذلك الاسمر النحيل صاحب اقوي صوت مر على تاريخ الاغنية السودانية، وصاحب اجمل احساس في ذات التوقيت. جدعة: على كل الفنانين الشباب المتوفرين بالساحة الفنية الان التأمل قليلاً في تلك المشاهد التى صاحبت ذكرى رحيل محمود الاولى، عليهم ان يتخذوا من ذلك الفنان الاستثنائي الكثير من الاضاءات، وعليهم ان يتعرفوا اكثر على تلك التجربة وعلى تفاصيلها وانفعالاتها واختلاجاتها وضجيجها وصخبها وعنفوانها ورقتها...وعليهم قبل كل هذا ان يعرفوا ان النجاح الحقيقي لهم في الوسط الفني، هو الحصول على نصف معجبي ذلك الفنان الراحل، فمقياس الفنان الحقيقي هو جمهوره، وليس (عداده) او نوع (سيارته).! شربكة أخيرة: اللهم اغفر لعبدك الفقير لك محمود عبد العزيز، اللهم ابدله داراً خير من داره، وعوض شبابه الجنة، وانزل شآبيب رحمتك عليه، آمين يارب العالمين. الشربكا يحلها - احمد دندش صحيفة الأهرام اليوم