الرجل يمضي في شأنه، وبذات طريقته اللا مبالية التي ابتدرها في التعامل مع السلطات المحلية مُذ (فار في رأسها الصغير)، أن الأسلوب الأمثل لتنظيم الأسواق هو حملات الدهم والمصادرة على كل من تسول له نفسه الباحثة عن رزق يطعم به أطفاله عرض بضاعته على هوامش الطرقات. بذات طريقته – يضع جوالاً بلاستيكياً فارغاً – مكتوباً عليه سكر أبيض نقي- إنتاج البرازيل، يثبت جنباته بأربع (طوبات) ثم يرص عليه بضاعته الشحيحة والفقيرة، فرش ومعاجين أسنان منتهية الصلاحية، أمواس حلاقة صفراء منخرطة في برتقالي شاحب، أمشاط شعر بمختلف الأحجام والألوان، بضعة سماعات هواتف، وأشياء أخرى صغيرة ومتكدسة أهمها (الشُرابات الرجالية والقفازات النسائية). يصيح الرجل بأعلى صوته (جبناها بالركشة وما بنخاف الكشة... كل حاجة بجنيهين)، ومع كل نداء يدير طاقيته الحمراء الباهتة بصورة نصف دائرية ثم يثبتها على رأسه بعصبية ملحوظة. نساء وشباب وشيوخ يجذبهم النداء العصبي المتوتر يتوافدون على (المفروش) يتأملونه ثم ينصرفون بهدوء، لا أحد منهم يشتري، والرجل يتوتر أكثر، ويهمهم: الناس ما يشتروا عادي، لكن الكشة ما بتجي، دا شيء غريب، ثم يتمتم اللهم أجعله خيراً. والشمس ذاهبة إلى مأواها، وبينما الرجل يلملم كاسده بطريقة آلية تشي بإحباطه الشديد، تنتابه حالة من الفزع جراء صوت بوق قوي صادر عن سيارة فخمة كانت تقف على الرصيف المجاور، انتفض كالملدوغ وهب واقفاً يبحث عن مصدر البوق، أشار إليه رجل في نظارة سوداء أن (تعال)، عبر الشارع، وهو يضع جوال البضاعة على ظهره، كان متوجساً من صاحب السيارة الأنيق (الناعم والعذب)، لكن تلك الابتسامة الساحرة الصادرة عنه جعلته يطمئن ويخفق، طلب منه الاقتراب أكثر، وهمس له أن يضع البضاعة كلها في (الضهرية)، امتثل صاحبنا وكأنه (منوم مغنطيسياً)، وضعها حيث أمره، ثم منحه ضعف ثمنها وأوصله إلى بيته، وطلب منه رقم هاتفه وانصرف. حدث ذلك قبل تسعة أشهر، وأربعة أيام أو (قول خمسة)، قال الراوي، قبل أن يضيف: الآن صار صاحبنا يأتي كل بضعة أشهر، وهو في ذات السيارة الفارهة، ويقف بذات الطريقة على الرصيف المجاور ويطلق البوق القوي، ويختار أحدنا لذات المهمة، وأضاف: احسب واحد، اتنين، زي تسعة كدا من الفريشة اللي كانوا معانا هنا بقوا أثرياء ثراءً فاحشاً، منغنغين وراكبين آخر موديلات السيارات، أما السر في ذلك فالله ورسوله أعلم به. وكل شيء في الخرطوم دي متوقع. الحصة الأولى - صحيفة اليوم التالي