كان السياسيون في الحكم والمعارضة يعرفون ثِقل جامعة الخرطوم، ومدى قدرة طلابها على العكننة والطنطنة وتحريك الشارع، وكانت دار اتحاد الطلاب تستضيف قادة جميع الأحزاب، بل كان من المألوف أن تجد شخصيات إفريقية سياسية معروفة تأتي إلى دار الاتحاد بانتظام وتجالس الطلاب وتمضي الوقت في الكلام في السياسة وشرب الشاي، فالرئيس الحالي لإرتريا، أسياس أفورقي كان دائم الحضور في الدار، والرئيس التشادي الأسبق حسين هبري، كان أيضا زبونا مواظبا في الدار، ولعل أقوى دليل على المكانة العالية لجامعة الخرطوم أن اتحاد الطلاب دعا قياديين في الثورة الفيتنامية ضد الاحتلال الأمريكي لجنوبفيتنام، لطرح قضيتهم في ندوة أمام الطلاب، فتحولت الندوة إلى مظاهرة ضد الولاياتالمتحدة طافت بالشوارع الرئيسية في الخرطوم ليلا، وكانت تلك هي الزيارة الوحيدة لأي جزء من إفريقيا لممثلي الثورة الفيتنامية (كانت أمي رحمها الله أمية مع سبق الاصرار والترصد، ومع هذا كانت من متابعي إذاعة «هنا لندن»، وبالتالي كانت تعرف الكثير عما يجري في مختلف دول العالم، وذات يوم من عام 1975 ايقظتني من النوم في نحو الخامسة صباحا فاستيقظت منزعجا وأنا شبه متأكد من أن أحد أقاربنا «انقرض»، كما نقول في السودان عن الشخص الذي مات، فإذا بها تصيح بلغة عربية قواعدها نوبية: قومي يا جافر.. الامريكان شردت!! همهمت «بسم الله الرحمن الرحيم» لأنني حسبت أنها فقدت قواها العقلية، ولكن السرور كان باديا على وجهها وهي تشرح: الامريكان بنات الكلب شردت من فيتنام... الراديو قالت كدا.. وتوجهت صوب الراديو الذي كانت تضعه على طرف سريرها فإذا بي أسمع تفاصيل هرب السفير الأمريكي وحاشيته من سايغون عاصمة جنوبفيتنام بعد أن دخلها الثوار، وفرحت لأن قوى أمي العقلية لم تشرد، بل شرد وهرب الأمريكان بعد هزيمة مذلة.. كان ذلك زمان كان السودان فيه ملاذ للثوار وحركات التحرر من الاستعمار، وتشارك فيه القوات السودانية في حفظ السلام في لبنانوالكونغو وترابط في جبهة قناة السويس في مواجهة الجيش الاسرائيلي الذي كان يحتل سيناء.. ثم انظر حالنا اليوم: جنود من بنغلاديش ورواندا والاردن وكمبوديا واثيوبيا تحفظ السلام في كذا ركن من السودان وتفشل في المهمة). كنا نستضيف ثوار الكونغو ضد الاستعمار البلجيكي، وناصرنا بطل معركة الاستقلال الكونغولي باتريس لوممبا، ولما اغتالته المخابرات الأمريكية قادت جامعة الخرطوم مظاهرات عارمة شارك فيها عشرات الآلاف من المواطنين، وانفعل بالحادث شاعر تعبان وسطر قصيدة من بيت واحد خففت عنا حزن فقد لوممبا، يقول فيها: لوممبا كنت في الظلمات لمبة، وقد ذاع أمر هذه القصيدة (العصيدة) في مصر والسودان، وكان الشعر السياسي رائجا في الجامعة، ومن أجمله ما قاله شاعر شيوعي في محبوبته: عينا حبيبتي نقابتا عمال/ وخصرها أفق برجوازي صغير (ومكمن البلاغة هنا هو أن الشيوعيين يعتبرون العمال طليعة النضال ويصفون البرجوازية الصغيرة بضيق الأفق، وقصير النفس، لأنها تميل إلى القفز على ما يسمونه ب«مراحل الثورة»، والخصر في العامية السودانية يسمى «الضمير من ضمر يضمر»)، وفي واحدة من أجمل الأغنيات السودانية يردد المطرب السوداني – الصومالي أحمد ربشه: الضمير خاتم، ويعني بهذا أن خصر حبيبته ضيق ورفيع بحيث يمكن أن تلبس فيه خاتما، وفي اعتقادي فإن أنثى قطر خصرها سنتيمتران، وهو أكبر قطر ممكن للخاتم النسائي، لا بد أن تكون مشرفة على الموت أو ميتة سلفا، وقد سبق أن نبهت في مقالات قديمة أن تشبيه فم الحبيبة بحبة الكرز «شتيمة» لأن امرأة بفم كذلك لا بد أن تكون ضحية تشوهات خلقية.. وتشبيه الحبيبة بالليمونة يعني أنها تسبب «الحموضة». جعفر عباس [email protected]