معروف عن الإمام الصادق المهدي أنه ليس راوياً للطُرف والمُلح والأمثال والحكم الشعبية فحسب، بل ومنتج ومؤلف لها، وأحياناً يطلقها عفو الخاطر هكذا (قطع أخضر) وليد لحظة الكلام. ومن آخر ما قاله الإمام ويعتبر أدخل وأليق وأقرب إلى أن يكون طرفة وملحة أكثر من كونه تحليلاً أو تعليلاً أو تبريراً، هو تلك العبارة التي رد بها على سؤال الزميلة الكاتبة الصحافية شمائل النور حين سألته في حوارها الذي أجرته معه لصالح صحيفة التيار (هل تقدم ابنك عبد الرحمن باستقالته عقب اعتقالك؟). ولتقرأوا أولاً رد الإمام على السؤال ثم أحكموا عليه بما ترونه مناسباً، وهل كان رداً منطقياً عقلانياً مقبولاً أم أنه كان نكتة تضاف إلى سجله العامر بالنكات واللطائف المضحكة. قال الإمام "طبعاً عبد الرحمن تقع عليه ضغوط كبيرة.. هو كتب خطاب الاستقالة وأعده لكن لم يقدمه!".. وبهذا الرد اللطيف الظريف أعتقد أن الإمام قد رفد المكنكشين من أصحاب السلطان والصولجان بنوع جديد من الاستقالات مبرئ للذمة يمكن أن نطلق عليه مسمى (الشروع في الاستقالة)، إذ يكفي أيما مسؤول نافذ ومتنفذ بحسب نظرية الإمام هذه مهما قارف من بلاوي وارتكب من جلائط وخطايا كي يغسلها و(يتحلل) منها، أن يأتي فقط بورقة وقلم أو يجلس إلى جهاز حاسوبه أو (لابتوبه) ويكتب استقالته ثم (يسيِّفها) أو يودعها درج المكتب و(بس خلاص)، ويكون بذلك قد خرج مما ارتكب نقياً نظيفاً كما تخرج الشعرة من العجين، وكما يعود الحاج بعد أدائه الفريضة ويعود بعدها لما فيه وعليه، وهكذا دواليك. والشاهد في طرفة الإمام هذه أن موضوع ابنه عبدالرحمن ظل على الدوام إحدى نقاط ضعفه وقلة حيلته التي يُحار إزاءها جواباً، إلا أن يجيب بمثل الذي أجاب به عن سؤال شمائل. وعلى ذكر عبارة (الشروع) هذه التي كانت قد شاعت على أيام التطبيقات الشائهة لقوانين الشريعة المشهورة باسم (قوانين سبتمبر)، حيث شاعت وقتها قضايا (الشروع) مثل الشروع في الزنا والشروع في السرقة والشروع في السُّكر. أذكر الحادثة الطريفة التي حكاها السفير السابق أحمد دياب في كتابه (خواطر وذكريات دبلوماسية)، قال إن شخصاً ما وُجد داخل زقاق مظلم وهو يضع يده داخل جيب جلبابه، وعندما شك فيه الشرطي وفتشه، اكتشف أنه يحمل زجاجة فارغة، إلا أن الشرطي أصر على أن يقتاده للمحاكمة بتهمة الشروع في السكر، لأنه يحمل "أدوات" السكر. وقتها ضحك الدكتور الترابي ضحكته الشهيرة بكل ما فيها من تقطعات وتلفتات، وقال لكن يجب ألا ننسى أن ذلك الرجل ما كان يحمل تلك الأدوات بحثاً عن حليب لأطفاله في ذلك الزقاق المظلم، وهنا ردّ عليه دياب، ولكن ما كان على ذلك الشرطي أن ينسى أنه كان يحمل معه أيضاً في ذلك الزقاق المظلم أدوات الزنا وعلاّم النوايا وحده هو الله. بشفافية - صحيفة التغيير حيدر المكاشفي