عندما لمح من كان يجالسني العنوان أعلاه، نبهني إلى أن كلمة (أم باغة) الواردة فيه، لها معنى ومدلول آخر غير إيجابي عند أهل دارفور، ثم أسهب في تعريفي بالمصطلح سيء الصيت، ليسألني بعدها عما إذا كنت أعني أم باغة دارفور أم أم باغة أخرى، مع تحذيري من الاقتراب من أم باغة دارفور حتى لا ألقى مصير الإمام والشيخ. قلت لا، بل هي أم باغة أخرى اكتشفتها الغراء صحيفة الجريدة، وهي عبارة عن الحذاء البيتي الذي نطلق عليه محلياً مسمى (السفنجة)، فقد نشرت الجريدة أمس تحت عنوان معاناة تولد الإبداع صورة لفردتي (سفنجة) مصنوعتين من قارورتي (تقرأ باغتي) مياه فارغتين، وهذا إبداع شعبي جديد يضاف إلى الإبداعات الشعبية السابقة في مجال ابتكار وصناعة أحذية الفقراء المحلية الشعبية، من أمثال الشقيانة أو تموت تخلي، وحاجة كافرة وأم جنق التي يقول عنها عارفوها سيدها لابسها والكلب حارسها، وغيرها من أحذية ومراكيب، تفتقت عنها إبداعات هذا الشعب لمقاومة الفقر حتى لا يسيروا حفايا من جهة، ولمكافحة قسوة الطبيعة من جهة أخرى. وعلى ذكر قسوة الطبيعة فقد تفتقت عبقرية أحدهم عن سفنجة أم باغة لتناسب واقع الحال على أرض الخرطوم اليوم التي يصعب السير عليها بالأحذية العادية، فهداه تفكيره إلى صناعة هذه السفنجة الكاسحة للوحل والخبوب والطين الذي تطينت به شوارع الخرطوم، وملأ كل ساحاتها، ولم يسلم منه الناس حتى في عقر دورهم. ومعاناة أهل هذا البلد منكود الحال والمنكوب بنخبه، ومن يقفزون إلى قيادته، ظلت على الدوام تلهمهم هذه المعاناة ببعض الحلول الإبداعية الشعبية، ليس في مجال الأحذية فحسب، بل في مجالات أخرى عديدة كالأطعمة مثلاً. ونذكر منها على سبيل المثال (أم بلقسات) المكونة من أرجل الدجاج وأطرافه وأحشائه، و(ساندوتش الموز) وغيرها من أطعمة شعبية فقيرة المحتوى، ابتكرها الفقراء لإسكات قرقرة بطونهم وإبقائهم على قيد الحياة، ولكن أياً يكن تواضع ومحدودية مثل هذه الحلول الشعبية، إلا أنها تبقى متقدمة ومتفوقة على الخيال الرسمي الذي ظل عاجزاً عن إبداع وابتداع أي حلول لمشكلات هذا البلد وقضاياه التي ما انفكت تعيد نفسها على مر السنين، ولو أخذنا مثلاً ما خلفه خريف هذا العام من أضرار ودمار وسوء تصريف سيوله ومياهه بذات الطريقة لأعوام خلت، لكفى هذا المثال للتدليل على محدودية وفقر الخيال الرسمي في إبداع الحلول المناسبة، وعلى ذلك قس بقية المشكلات والقضايا التي لا تزال ترواح مكانها منذ عشرات السنين بلا أفق في حل ناجز لها، يقطع دابرها، والآن إذا كان هذا السوداني الأشعث الأغبر قد هداه تفكيره إلى صناعة السفنجة أم باغة لمواجهة مياه البرك الآسنة والطين والأوحال والخبوب، فلننظر ولننتظر ماذا ستفعل الجهات الرسمية لمقاومة ما تنتجه هذه البرك والأوحال والأوشاب والأوساخ من جيوش وحشود الآفات والهوام والحشرات والباعوض والذباب. بشفافية - صحيفة التغيير حيدر المكاشفي