كنت مولعا حد الهوس كما الكثيرين حول العالم بقناة الجزيرة في عقدها الأول.. ولا أقول القطرية، ولكني أقول كما يعرفها أهلها ومذيعوها (قناة الجزيرة في قطر)، فعلى الأقل لم تنهض لمناصرة الدولة القطرية بدليل أنه يمر الأسبوع والأسبوعان ولا توقد فيها نار لخبر من البيت القطري، وتلك قصة أخرى سنعرض لها في حينها و.. و.. ولم يكن مبعث انبهارنا ومصدر افتتاننا بقناة الجزيرة ناتجين عن جرأتها وسقوفات حرياتها اللا محدود فحسب، بل لمهنيتها العالية التي نهضت على مبدأ وشعار الرأي والرأي الآخر.. فضلا عن أن الجزيرة قد زلزلت الأرض تحت أقدام الإعلام الرسمي العربي.. ثم تحطيمها لمسلمات الاعتقاد السائد بأنه ليس بمقدور أي أطروحة إعلامية عربية أن يكتب لها النجاح بمعزل عن الدراما والأغاني والأفلام الماجنة !! فكانت المفاجأة أن احتدشت الأمة العربية من الخليج إلى المحيط والمهاجر حول شاشة الجزيرة التي لم تبث أغنية واحدة ولا مسلسلاً يتيماً.. ليثبت للعالمين أن بمقدور هذه الأمة أن تكون جادة متى ما وجدت فرصة للتعبير عن هذه الجدية.. فكانت الجزيرة بمثابة الفرصة التي عبرت فيها الأمة عن جديتها المسروقة وإرادتها المختطفة من قبل النخب والساسة الانتهازيين و.. و.. فاحتدمت رغبتنا يومئذ للتعرف على المزيد من عناصر النجاح الداخلية الحقيقية التي تنهض عليها هذه الممارسة المهنية العالية.. وفي سببل هذا انتهزت فرصة ذات زيارة للصديق عمار عجول للخرطوم، فسارعت للجلوس إليه والاستفادة من تجربته.. فقال لي ليلتها.. وكنا جلوسا بمنزل محمد طاهر عجول بحي الدوحة السوداني.. قال عمار إنه بالإمكان أن تنجح في توفير كل عناصر النجاح من أجل إقامة أطروحة إعلامية باهرة.. لكنك في المقابل قد لا تنجح بعد ذلك كله في إحراز درجة مشاهدة عالية.. على أن الجزيرة واحدة من صدف التاريخ!! وربما يرفد قول الأخ عمار هذا إن كثيرا من الممولين الإقليميين قد أنفقوا بعد ذلك بسخاء لإقامة قنوات ضرار للجزيرة فلم يبلغوا معشار ما بلغته الجزيرة.. ولأهلنا في السودان مقولة قدرية تسليمية يطلقونها في مثل هذه الأحيان تقول (القبول من الله) !! ومن ثم توهجت نجومية أتيام الجزيرة وتلأﻷت في سماء الأمة، فنكاد نصفق إعجابا عند نهاية كل حلقة من ذوات الاتجاه المعاكس وما وراء الخبر وبقية البرامج الحوارية الباهظة !! ومن ضمن النجوم الذين أبهرونا بمقدراتهم المهنية العالية التونسي محمد كريشان.. والذي حتى الأمس كنا نحتفظ له بصورة باهرة جدا.. غير أن الرجل كريشان قد خرج علينا في أول ظهور له خارج الاستديو بمقالة مرتبكة ومتناقضة.. ذبح فيها وفي وضح النهار مهنيته التي كان يتمثل بها داخل استوديوهات الجزيرة.. فلم يراع فيها إلا ولا ذمة ولا وجهة النظر الأخرى التي طالما أمطرنا بقيمتها عقودا بأكملها.. وبدا كما لو أنه قد خرج لخدمة فكرة بعينها.. فقد نهض مقاله على مسوغات.. أن الرئيس البشير ما كان له أن يأتي بولاية جديدة وهذا ما قال به كثيرون.. غير أن السيد كريشان قد برر ذلك بأن البشير مطلوب للعدالة الدولية لارتكابه جرائم حرب في إقليم دارفور.. وغيرها من المسوغات!! وإذا بدأنا بتضخيم أهزوجة الفساد، فنقول للأخ الفاضل كريشان.. إن الرئيس وأسرته على الأقل لم يبلغوا فساد وجبروت ليلى الطرابلسي سيدة قصر قرطاج.. التي إذا تعارض نص في الدستور التونسي مع رغباتها يذهب الدستور وتبقى رغباتها.. كما لم يبلغ البشير جرأة الحالة البورقيبية التي عطلت فريضة الصيام فضلا عن بقية الشرائع والسنن التي أحياها البشير.. غير أن الرئيس البشير قد أتى محمولا على رغبات الجماهير التي اعتادت أن تنام تحت مظلة بزته الأمنية.. ذلك في عالم يمور من حولنا بالحركات الإثنية والمذهبية فالمهدد الأمني مازال قائما و... و... غير أن أسوأ ارتباك لازم مقالتك وكاد يهزم مهنيتك.. الحاضرة على شاشة الجزيرة الغائبة في الصحيفة.. هو ما ظللتم تمطروننا به من منصات الجزيرة عن العدالة الدولية الموءودة !! ذات العدالة التي تود سيدي أن يمثل أمامها البشير !! فهل نحن أمام شخصيتين متناقضتين أم لكل حالة لبوسها ولكل وسيلة إعلامية مطلوباتها وخطها التحريري.. وعلينا في هذه الحالة أن نترك قناعاتنا (إن كانت لنا قناعات) في بيوتنا ونخرج نبحث عن أرزقنا!! وهو ارتباك يصلح له قول المك نمر في مسرحية مقتل ود كين السودانية.. "الهيلكم تمام فيها مابتنغلبو تعرفو للقنيص ترعو وتعرفو تحلبو"! ممكن أن تستعين بصديق سوداني ليذلل لك فهم هذه التراثية السودانية ! ولا تنتظر أخي محمد كريشان أن نقدم كالكينيين ذات يوم رخيص رئيسنا البشير (لفتوات وصعاليق) المجتمع الدولي!! فهذا دونه أرواح ثلاثين مليون سوداني!! أخي محمد كان الأولى بعدالتك هذه الهالك شارون ونتنياهو وبوش الابن والأب وطابوراً طويلاً من القتلة الدوليين والإرهابيين الأمميين، فما لكم كيف تكتبون؟! وليس هذا كل ما هناك، ولنا عودة بحول الله وقوته.. أبشر الماحي الصائم ملاذات آمنه - صحيفة اليوم التالي [email protected]