في آواخر ثمانيات القرن الماضي أصابت كارثة طبيعية أرضي ، الجفاف بدأ جاداً في زحفه علنا تجاه قلب مواطننا مبدلاً بالاصفرار كل أخضر . الغبار الآتي أكد الخبر ، عم الوادي وفاحت رائحة التصحر ، ولأننا قبيلة ثروتها تعتمد كلية على المراعي الطبيعية ، فنحن أهل ابل ورعي ، لذا ما كان بإمكان القبيلة احتمال خبر تغير المناخ المدمر لاستقرارنا بقية ذلك العام . الهلع اصاب الكل بلا استثناء ، موسى كان غائبا عندما تأكد خبر الجفاف القادم نحو مضاربنا ، اعذروني إن كنت قد حشرت أسمه سريعا في القصة ذلك لأنني ومنذ أن مسكت القلم ما غفل قلبي لحظة عن ذكراه ، عموما لا جديد فذاك حالي منذ أعوام . الجميع لا شاغل لهم إلا الجفاف الزاحف والسُحب المستعصمة بالبعد والقحط المرتقب والتصحر الذي احكم قبضته على معظم الوديان ، عندما كان ذاك حال الجميع كنت أنا اهيم في وادي أخر ، كوكب يدور وحيداً في فلك محرم الإعلان عنه ، لقد ترعرت في وسط يبتر كل نزعة قلبية قبل أن نحسها حتى ولا يهتم ابداً لشئون العاطفة ولا يحسن الوداع الحنين ولا استقبال اللهفة ولا يثرثر بالشوق ولا كبير اهتمام لتبدلاتنا النفسية نحن الفتيات هلع النساء كان قاتلاً لأنهن للمصائب والمصائب لهن عادة ، مرة أخرى سيدفعهن الرحيل لطي بيوتهن واستقرارهن ولف بساط الشعر اللائي انتهين لتوهن من نسجه ويتوجهن حيث يشير الرجال ، الرجال هنا لا يعنيهم إلا ابلهم ، لا إلفة المكان ولا الحنين إلى الوديان الأولى ولا راحة نسائهم تعنيهم كثيراً . التصحر أصاب الصحراء في كبدها وأصابنا في القلب ، ولأننا قوم حزن ومحن ولا نحسن النجاة من أخبار الكوارث جاء في قمة الهيجان ذاك خبر الهجوم على ابل القبيلة وبهائمها ، فرسان القبيلة كلهم غائبون مشغولون بالبحث عن اودية خضراء ، لكن الكل قال ارسلوا رسولا لموسى وأحمد . حسنا الكل قال موسى لأن موسى ولد بموهبة تتبع أثر الابل وترويض النافر من الخيل ومهارة التصويب وفن المراوغة مع الأعداء وحسن اختيار الطرق ، ولد ليجد مقعده في الزعامة محفوظاً ، ذاك ما كانوا يرونه فيه ، عندي هو قطعا لا يشبه احداً بملامحه الدقيقة وعيناه المكحّلتان الواسعتان ولونه القمحي وابتسامته الخجولة وصمته الساهي وخطواته الثابته وإيماءاته المهذبة ولطف حديثه ، كان جميل الملامح شهم العادات لم أكن وحدي اهيم به ، كنا كثيرات حتى اللائي تزوجن حلمن به في بدايات تكوينهن ، حلمي كان معي في كل الأمكنة التي سرحت فيها ببهائمي ، حملته أنيس تنقل وقديما قالوا أن الروح عندما يُقلقها الشوق يستعصي عليها السكون ويستحيل أن يبقى شأناً داخليا ، إننا في الشوق كما في الحزن يلزمنا حضن مشارك ، الدفء يلزم جميع حالاتنا ، لا معنى لكل ذلك بلا رفيق أو هكذا كنت اظن ، موسى كان رفيق أوقاتي ، نديمي الذي ابقيته شأناً داخلياً لحين . عاد الرسول بموسى وأحمد من أقاصي المفازات ومع أننا نفعل كل شيء هنا بترو ومهل إذ لا ضرورة للعجلة ، إلا أن موسى بقى مع الرجال لحظات التزود بالمعلومات والسلاح ، سمعت خبره وأنا عند الحفير أسقي البهائم ، تركتها راكضة تجاه المضارب ، كان الوداع قد اوشك على الإنتهاء لكن في لحظة نهوض جمله التقت نظراتنا ، أنتبه فيها لثوان لحضوري ، كأنه يراني للمرة الاولى ، أنا أيضا بدأ ليّ أجمل بكثير مما تخيلته - سأدخر نفسي لموسى تمتمت لنفسي وهكذا ببساطة بدأ تقافز قلبي والذي لن يهدأ بعدها ابدأ ، ومنذ تلك اللحظة التي التقت فيها نظراتنا بدأ كل شيء فيني يتغير ، لم أعد تلك البنت الحائرة المترددة ، لقد امتلاء الفؤاد بجدية ، البنات الصغيرات يصرن نساء بسلوكهن ، يجب أن اصبح امرأة من أجل موسى . صباحا مع أول توفر خيط ضوء أخرج لجلب الماء من الحفير ، أسير ساهية في أحلامي ، خطواتي يقودها الاعتياد اكثر من أي شيء أخر كحمار معصوب العينين اتقدم دون تلفت ، لا أشعر ثقل الصفيحة على رأسي ولا بعد المسافة ، القلب مشغول بالغائب البعيد ، أسقي دجاجات أمي والمعزتان ، أقلب عجينة الدخن على السنس ، أرتب السرير الكبير بعد استيقاظ أمي وأخوتي الصغار ، أحيانا أعيد زينة الباهر ، العمود الركيزة في شُقتنا الصغيرة ، كل ذلك أفعله سريعا لاقضي فائض الوقت في الأحلام والتوهان المشتهى في ممرات سرية جدرانها وأرضها وسماءها ملونة بموسى ، بالغائب المنتظر ، نسيت أن أقول أن التقصي عن أخباره والسؤال عنه مباشرة هنا ممنوع ، الحياء قاعدة سلوكية عند الفتيات . ستظنون خطاءً أنني لم أتزوج لأن لا خاطب جاءني ، خُطابي كانوا كُثر فأنا لم يكن ينقصني الجمال ، فعيناني واسعتان وإن كان بهما قليل كدر ، حاجبأي كثيفان ، شعري طويل ، فاحم وناعم ، قامتي معتدلة تميل للنحافة قليلاً وبيضاء بلا سوء . جمالي بدأ يُلحظ من الشباب منذ ان بلغت الثالثة عشر ، اللائي في مثل عمري كلهن تزوجن وأنجبن ، أنا لم أكن مهمومة بالإنجاب رغم التحذير المستمر من امي إن بلغت العشرين فلن أنجب بسهولة كما رفيقاتي الآن ، لكن ماذا أفعل موسى انتبه ليّ متأخرا . بعد خبر الجفاف ومنذ ساعة انتباهه تلك بت أهدر الليالي سهراً أحلم به وأدعو الله بعودته سالما معافى ، لقد تعلمت من اجله كيف امشط شعري بالخرز ليبان غزيراً ، مسموح لنا بالتباهي بجمال شعورنا طالما أننا لم نتزوج بعد ، باقي الخرز كنت انظمه في خيط متين ليصبح عقداً ألبسه يوم مجيئه وحجلاً ألبسه في قدمي اليمنى لجلب الفال الحسن ، أيضا تعلمت مزج بقايا الهباب الأسود بقليل من زيت الطعام لأضعه على شفتي كما تخلصت نهائيا من عادتي الركض حافية وعدم الاهتمام باتساخ ملابسي. طال الغياب أمتد شهراً ، عاد خلالها الفرسان المكلفون بالبحث عن أودية خضراء ، يجب أن تنقسم القبيلة إلى قسمين ، هكذا قالوا ، الجفاف عم معظم الوديان ، لكن الابل لم تعد بعد ، احيانا اشتم رائحة موسى في النواحي ويكفي أن يذكر أسمه حتى ينفرط حبي متدفقاً ومبللاً للدواخل . في ضحى يوم غائم بعد عودة الفرسان بيومين جاء الخبر ، الابل في الطريق للمضارب ، سالمة ، كاملة العدد مع البهائم الاخرى ، فزع قلبي ساعة الخبر وكأن هناك خبر يخصني وحدي لم يُقال ، احتميت بظل بخيل اراقب ، من طرف الخلاء البعيد بانت الابل قبلهم ، القبيلة كلها خرجت لاستقبال الابطال ، تسمرت في مكاني ، عينأي تحاولان اختراق الفراغ العريض الذي يفصلني عنهم ، انقباض وخزني في صدري ما أن بدؤوا بالاقتراب ، تدفق الدم عنيفا في شراييني لوحت لهم بيدي محييةً لأن صوتي لم يخرج ، موسى ليس معهم ، عبروني قاصدين مجلس الشيوخ ، القبيلة كلها تتبعهم ، موسى لا في مقدمة الركب ولا في ذيله ، حصانه من دونه ، صمت ثقيل ابتلعني ، مخلب حاد شد على قلبي محولاً الوخز إلى طعنات ، غاب الضوء لثوان ، سحابة كثيفة اطبقت على أنفاسي ، الحصان بلا فارسه ، تمزق اصاب الأمكنة وما عادت النواحي مطمئنة - مات رجلاً - هو الفارس دائما هكذا كانوا يعزون بعضهم فيه ، الرجال احتضنوا أبيه مهنئين إياه ، فقد مات بطلاً مات موسى أصابني الخبر في روحي شاقاً صدري إلى نصفين ، كيف ستكون بقية حياتي من دونه ، صوته لن يكون في الأجواء ولا رائحته ستعطر الأمكنة، مات دون أن يعلم بأني كنت أختم كل صلواتي بالدعاء له وبعودته سالما ، مات دون أن يخفف عن قلبي حمل حبه . المغيب أوشك ، انتبهت بعد زمن ، سيفتقدونني ، إلى اين سأمضي بقلب مذبوح وجسد منهك . خطواتي قادتني ناحية الزرائب ، خلال برهة ادركت كم أنا غريبة في هذا المكان ، موسى كان كل شيء هنا . أصوات الرجال وجدلهم يزاحم الفضاء ، من أين لهم بطاقة الكلام والحصان خال سرجه ، فارسه ما عاد يعلوه يا موسى حكيت حبي لأخفف بعض حملي ، إن خف ، علّي أقدر على مواصلة الحياة والرحيل معهم شرقاً