سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
نحن جرينا من الحرب ..وما عارف ليه بشرب السلسيون ؟! ..زعلان لأنو بقولوا نحن شماشة نحن ما شماشة نحن جينا عشان (كلام) الحرب وهدومنا وسخانة وما عارفين مكان ننوم
بينما كنا بموقف مواصلات (الإستاد) بالخرطوم نقف مشدودي الأعصاب تائهي النظرات نراقب الحافلات لكي نمتطيها في رحلة العودة الى المنزل، كان الطفل (يعقوب) يجلس على تلك الحواجز الأسمنتية التي تفصل بين موقف وآخر ويضع لفافة من القماش الداكن على فمه ويجول بعينيه يميناً وشمالاً وتارة يعلق نظراته نحو السماء كأنه يبحث عن إجابة لرجائه، اقتربت منه وألقيت عليه التحية فرد (بتهذيبٍ) ثم عاد محدقاً الى السماء ورجع شادا انتباهه معي فقد كان يدرك بأني ساسأله فهو لم يكن ثملاً بل في كامل وعيه فداربيننا الحوار الآتي: كيف إنت كويس؟ أنا كويس الحمدﻟﻠﻪ . دا شنو الخاتيه في خشمك دا؟ ولله ما عارف . ما عارف كيف، دا سلسيون مش؟ أجاب نعم سلسيون . طيب ليه إنت بتشربوا؟ أنا ما عارف ولله (لقيت الأولاد بعملوا كدا وأدوني معاهم) . من متين وإنت بتشرب السلسيون؟ طولتا . إنت أهلك وين؟ أهلي في الدمازين . والجابك هنا شنو؟ نحنا كتار جرينا من الحرب وخلينا ناس أمي وأبوي هناك (ركبنا العربات وجينا الخرطوم) لما وصلنا الخرطوم كنا وسخانين شديد شافونا ناس الكشة في السوق شالونا ودونا معسكر قعدنا في المعسكر.. بس ما قدرنا نقعد طلعنا منو وجينا السوق . ليه طلعت من المعسكر إنت؟ نحنا كتار طلعنا لأنو الأكل كعب وما بنطلع نمشي أي مكان وفي رائحة (عفنة) عشان كدا أنا طلعت ومعاي أخوي كوكو . عمرك كم سنة يا يعقوب؟ أنا عمري ۱۳ سنة وأخوي عمرو ۱5 سنة . أخوك بشرب السلسيون برضو؟ آي بشرب وكل الأولاد بشربوا . إنت لو لقيت سكن كويس ومدرسة وأكل كويس وترجع أهلك ممكن تخلي السلسيون؟ أيوه لو لقيت الحاجات دي أنا (ما داير سلسيون) . أكثر حاجة مزعلاك شنو من ناس الكشة؟ زعلان لأنو بقولوا نحن شماشة نحن ما شماشة نحن جينا عشان (كلام) الحرب وهدومنا وسخانة وما عارفين مكان ننوم عشان كدا بقولوا نحن شماشة. إنت ممكن ترجع أهلك وتعيش حياتك كويس؟ عايز أرجع لكن ما معاي قروش (أنا معاي الله بس) عايز بس مكان أنوم فيهو وأتغطى من البرد كل يوم بنجي السوق العربي بناكل وبنوم في أي مكان . انتهى الحوار بيني ويعقوب . ولكن لم تنته المأساة فما يزال يعقوب على ذلك الرصيف يجلس كل يوم واضعاً لفافة السلسيون على فمه محدقاً في الأفق منتظراً الخلاص ينتظر أهله الذين فرقت بينه وبينهم المنافي بعد أن أكلت الحرب الأخضر واليابس وأحالت البيوت الى مساكن للأشباح، أطفال فقدوا المأوى بعد أن كانوا بأمان يتقاتل الفرقاء فوق رؤوسهم وهم لا يعلمون فيما يقتتلون. القضية ليست الحرب فالحرب قد تقف بقرار ما أو اتفاق ما ولكن القضية التي قد لا تحل أبداً قضية يعقوب وأمثاله ممن يخطون مسرعين نحو عالم الإدمان، هو وإخوه وآخرون كثر من يحل قضيتهم ومن ينتشلهم من هذا الواقع المرير؟، السؤال موجه لوزارة الرعاية الاجتماعية ومجلس رعاية الطفولة أليس هؤلاء (المشردون) كما يطلق عليهم تمييزاً سودانيين، من المسؤول عن ضياع طفولتهم؟، وما مصيرهم في ظل عدالة اجتماعية تنادون بها. صحيفة الجريدة حواء رحمة