عزيت سائق تاكسي المطار في وفاة محمد حسنين هيكل فإذا به يخفض صوت المذياع ليسألني ببراءة (مين يا فندم ؟!) .. * فطلبت منه رفع الصوت مرة أخرى لتجلجل أغنية لم أفهم منها سوى كلمة (مهلبية) .. * زوج صاحبة العمارة التي استأجرت فيها شقة تحدثت معه عن فقد مصر لأنيس منصور .. * فأجابني قائلاً (بس أنيس منصور ما متش يا باشا، هو حي ) .. * فعلمت أن الذي مات هو انطباعي عن مصر كما كنت أعرفها .. *وازداد يقيني بهذا حين أشار ثالث إلى مجاورة دولة جنوب السودان لمنطقة النوبة .. * وهو كان يتحدث عن النوبيين النيليين لا نوبة غرب السودان في الجبال .. * وفي أيام دراستنا الجامعية كان أستاذ الفلسفة عاطف عراقي يتخوف من انهيار ثقافي بمصر .. * وسبب تخوفه هذا ذيوع شهرة أحمد عدوية في أعقاب عبد الحليم حافظ .. * لم يكن يستوعب هبوط الذائقة الغنائية من علو ( بتلوموني ليه ) إلى حضيض (سلامتها أم حسن) .. * ولم يكن يعلم أن عدوية سيكون قياساً” لآخرين يأتون من بعده (سيد درويش ) .. * ومن الآخرين هؤلاء ذاك الذي لم استوعب من صخب غنائه سوى كلمة (مهلبية) .. * أما أغرب ما سمعته بالقاهرة إلى الآن أغنية كلها (عنب) .. * فمقدمتها عنب، ووسطها عنب، وخاتمتها عنب .. * وكلمة العنب تتردد فيها بقدر أعداد السيارات التي تزحف كما النمل على الشوارع .. * وربما تعجل قليلاً أحمد عدوية وهو يتذمر – لحناً- مما سماه (زحمة يا دنيا زحمة) .. * فالقاهرة آنذاك – مقارنة باليوم- هي أفرغ من فؤاد أم موسى .. * أما التي تستحق أغنية (سلامتها) فهي أم الدنيا الآن وليست أم حسن .. * وإن كانت القاهرة صنفت – قبل أعوام- خامس أكثر عاصمة ضجيجاً” فلا أدري ما هو ترتيبها الآن.. * فالتلوث السمعي فيها بلغ حداً” لا ينقصه الصياح ب (العنب) بين جنباتها .. * والبارحة طلبت من سائق أجرة توصيلي إلى مكتبة (مدبولي) .. * فلما نظر إلي ببلاهة تركته وطلبت من ثانٍ ، ثم ثالث ، ثم رابع .. * وكلهم -والله العظيم- لم يعلموا موقع مكتبة مدبولي هذه .. * أما أنا فقد علمت ما آل إليه (موقع) مصر الثقافي مصداقاً لنبوءة عاطف العراقي .. * فقد كان يكثر من ترديد عبارة (على الله توقف عند حد انسح اندح امبو) .. * وعلى الله -الآن- (توقف عند حد القشطة والمهلبية والعنب) .. * وعودة إلى مكتبة مدبولي أقول إن سائق التاكسي الخامس كانت إجابته (ماشي يا باشا).. * فلما جلست بجواره وانطلقت السيارة عرفت أنه يريد أن (يمشي) أمره فقط .. * فما أن (مشينا خطوتين) حتى دمدم قائلاً (بص يافندم، أنا ح أوديك مكان المكتبات وانت تدور على راحتك هناك بقى) .. * ومشى معنا (العنب العنب العنب) !!!