-لما كنتُ قريباً من الملف الطبي والطبابة، منذ العهد الطالبي في مطلع الثمانينات من القرن الماضي، باختيار أستاذي العلامة الراحل البروفيسور عمر محمد بليل مدير جامعة الخرطوم آنذاك، أن أكون قريباً منه لأداء مهام صحفية وإعلامية. وأنا طالب بالسنة الأولى في كلية الآداب بجامعة الخرطوم إلى أن تخرجت فيها، وابتعدت منها إلى بريطانيا، حيث عشتُ كيف كان يدير البروفيسور عمر بليل الجامعة، ويخصص وقتاً محدداً لمتابعة مُجريات العمل الأكاديمي في كلية الطب فيها، دراسةً وممارسةً. ويُمضي أغلب يوم السبت من كل أسبوع في مستشفى سوبا الجامعي، مباشراً لعمل الطبابة والجراحة فيها. وتعلمت منه أن دراسة الطب، دراسة تجمع بين المعرفة والمهارة، لذلك تحتاج إلى جُهدٍ كبيرٍ منه كمدير للجامعة. وقد كنتُ أذهب معه كثيراً إلى كلية الطب، متفقداً وموجهاً لعميد الكلية ورؤساء الأقسام والإدارات المختلفة. وقد راعني مشاهدة لافتة على الشوارع الرئيسة تعلن للزبائن عن كلية طبية بين تقاطع شارعيّ عبيد ختم مع البلابل، مما آثار فضولي للوقوف على أسباب هذا التدني في الدعوة إلى دراسة، كانت حُلم النابغين، يفشل من دخولها عباقرة الوطن حتى أصبح الأطباء يُوصفون بأنهم صفوة الصفوة (Cream of the Cream). مازالت مهنة الطب تجذب الأسر والأبناء، فلقب دكتور أو دكتورة جواز مرور في مضبات الحياة وزينة تتزين بها العروس في كرت الدعوة للزفاف. ولكن في المقابل هذا الانفراط في عدد كليات الطب، وتدني شروط قيامها، وندرة الأساتذة، وضيق مواعين التدريب في المستشفيات، لابد أن يخلق جيلاً جديداً من الأطباء تعوزه المقدرة العلمية والمهنية، مما ينذر بتدهور في مقدرة المستشفيات لتقديم العلاج للمرضى وقصور في درء الكوارث الصحية. شهدنا في الأعوام الماضية, هبوطا مريعا في نسبة القبول لكليات الطب حتى وصلت 50٪، ومع احتجاج الكثيرين أصدر التعليم العالي قراراً بأن تكون النسبة الدنيا للقبول 70%، ولكن نسبة لقيام عدد مقدر من الكليات الجديدة، ومعظم منشئيها من ذوي المعارف، اضطرت إدارة قبول التعليم العالي إلى تخفيض النسبة إلى 60% بل أقل. ويتساءل الكثيرون عن شروط قيام كليات الطب وهي التي تحتاج لبنية تحتية كبيرة من قاعات ومشارح وفسحات للترويح عن ضغط الدراسة، ثم مستشفيات بمرضى تتنوع أمراضهم، وما نشاهده اليوم أن معظم الكليات تقوم في شقق غير مفروشة كالتي أعلن عنها في صواني الشوارع. وحسب إحصاء دقيق نجد أن معظم كليات الطب الخاصة تقوم في الخرطوم، ولعلها كلها في الخرطوم ، ما عدا كلية العلوم الطبية في ود مدني وأخرى أيضاً ستقوم قريباً في الجزيرة. وبولاية الخرطوم ست جامعات حكومية واربع جامعات حكومية لها قبول خاص، بها كليات طب. والقبول لها يزيد عاماً بعد عامٍ حتى وصل في كلية الطب بجامعة الخرطوم إلى 450 طالباً لأن القبول الخاص يرتفع سنويا حتى فاق 150 تقريباً. أما الكليات والجامعات الخاصة فقد بلغت حتى العام الماضي 16 كلية وأربع أخرى تحت التصديق ربما تلحق بزميلاتها في دورة القبول الثاني. والحديث عن أعداد الطلاب يثير عدداً من التساؤلات، معظمها عن نوع الخريج ومستقبل مهنة الطب بهذه الأعداد. وإن تفاءلنا، ستكون عاجزة عن أداء الوظيفة المهنية للأطباء. وبالحساب البسيط، نجد أن كليات الطب في ولاية الخرطوم والتي بلغت 26 كليةً، ونقدر أن عدد الطلاب المنتسبين إليها يصل الى 180.000 طالب في الأعوام الإكلينيكية والتي تحتاج إلى التدريب داخل المستشفيات. فهل هنالك متسع لكل هذا العدد الكبير في مستشفيات الولاية حتى إذا أضفنا مستشفيات السلاح الطبي والشرطة والأمن، إذ لا يبلغ عدد الأسرة فيها جميعاً 8000 سرير أي بواقع 22 طالباً لكل سرير. وحدثني من أثق فيه، أن عدد الطلاب الذين يلتفون حول السرير الواحد يبلغ الأربعين في بعض المستشفيات من الجامعات الحكومية والخاصة. وقد انسحب الاختصاصيون للعمل في التدريب، خاصة في الكليات الخاصة، تاركين العيادات الخارجية، وتدريب النواب وأطباء الامتياز. لا نتحدث هنا عن الضغط على هذه المستشفيات على الحمامات والكافتيريات، وإذا أضفنا الكوادر الأخرى التي تحتاج إلى التدريب داخل هذه المستشفيات, يصل العدد إلى ما يفوق ال250.000 طالب. قال محدثي إن المرضى يهرعون إلى ظل الشجر عند قدوم الطلاب تاركين الأسرة خالية. والأمر بهذه الصورة، فيه جهد كبير وضيق، بل وخطورة على صحة المرضى. هل هنالك تنسيق بين التعليم العالي ومنارات الصحة في الخرطوم والولايات عندما تنشأ هذه الكليات؟ وهل يتدبر منشئو هذه الكليات الأمر لإنشاء مستشفيات خاصة بهم كما هو الحال في مصر مثلاً. قد قامت بعض الجامعات في الخرطوم بإنشاء مستشفيات خاصة بها، ولكن حجم هذه المستشفيات وكونها لمرضى يدفعون ثمن العلاج بالسعر الخاص, لا يمكنها من أن تكون صالحة للتدريب خاصة أمام هذه الأعداد الكبيرة، ولكن لا ننكر أنها محاولة طيبة يجب أن تعمم. وقد قامت الوزارة بمنح مستشفيات لبعض الجامعات بشروط للشراكة كما حدث مع جامعة الأحفاد في مستشفى الراجحي والأكاديمي مع جامعة العلوم الطبية ومستشفى النو/ البلك مع جامعة التقانة وجامعة ابن سينا في مستشفى البان جديد. والسؤال: هل هنالك من المستشفيات ما يغطي كل هذه الكليات؟ وما هي الفائدة التي تجنيها وزارة الصحة، وبالتحديد المريض الذي يتدرب عليه الطلاب؟ للأسف، ظهرت على السطح مع هذا التوسع، التدريب على «مرضى المتاحف»، وهؤلاء مرضى بأمراض مزمنة، هواتفهم مسجلة في بعض هذه الكليات، يطلبون للتدريب مقابل دفع مالي وكلية طب مملوكة لأجانب لم ير طلابها أي مستشفى إلا في الثلاثة أشهر الأخيرة، مما يفقد الطلاب الإحساس بمهنة الطب والتي في مظهرها، مرضى في العيادات، وحوادث وطوارئ، وعنابر وأطباء وتمريض، وجو عام يوحي بالمستشفى، وتعليم الطلاب من كل هذا حتى السير في ساحات وكلودورات المستشفى كثيراً. الأمر يحتاج إلى مراجعة في شروط إنشاء كليات الطب. ونحتاج إلى مزيدٍ من المستشفيات التي يمكن أن تستوعب هذا الكم الهائل من الطلاب، والجامعات الحكومية هي الأخرى عالة على هذه المستشفيات لا تقدم لها إلا النذر اليسير من الاختصاصيين. فتجربة سوبا لجامعة الخرطوم تجربة رائدة، ولكنها غير كافية لأعداد الطلاب الكبيرة، وتنقصها أقسام مهمة، كقسم الطوارئ. وجميل أن تقوم مستشفى الصالحة التابعة لجامعة أم درمان الإسلامية. أخلص إلى أن، التنسيق ضروري بين من يدير هذه المستشفيات ووزارة التعليم العالي، وكسب رضا المرضى، وموافقتهم ضرورية للتدريب عليهم. ويجب أن يكون لهم حق القبول أو الرفض من غير أن يؤثر هذا على علاجهم، علاجاً كاملاً. هذه دعوة للنقاش.