غبت عن البلاد قرابة الشهر وعدت لأجد أن سعر العملة الوطنية انخفض في وتائر متسارعة حتى وصل قرابة الخمسة والعشرين جنيهاً مقابل الدولار، وبدأ الناس في التوجس خيفة من استمرار التدهور والإحباط يخيم على الجميع بعد الأمل والتفاؤل الذي ساد البلاد عقب الرفع النهائي للعقوبات الاقتصادية في الشهر الماضي.. هذا الأمر جعلني أراجع مقالين سابقين كتبتهما في سبتمبر الماضي، وضحت فيهما أنه يجب عدم وضع آمال عراض في تحسن مباشر وعاجل عقب رفع العقوبات، وذكرت أيضاً أن سعر صرف الدولار لن ينخفض، لأن الطلب عليه سوف يزداد بعد بداية التعاملات البنكية عبر القنوات الرسمية الدولية، مما يزيد سعر الدولار لأنه غير متوفر الآن رسمياً عبر زيادة الصادرات وخفض الواردات.. العجز في الميزان التجاري في العام 2016 كان قرابة الأربعة مليارات دولار، وقلت لمن يسأل عن كيف يصمد الاقتصاد السوداني في ظل هذا العجز المتنامي، إن السودان يدار وصامد بما يسمى الاقتصاد الخفي (Hidden Economy)، المتمثل في توفر عملات أجنبية خارج النظام المصرفي، يأتي إما نقداً عبر عمليات غسيل أموال أو تحويلات مغتربين خارج الدائرة البنكية الرسمية.. في تقديري هذه الأموال والتحويلات تقارب الثمانية مليارات دولار، حوالي ستة منها قابعة خارج البلاد أموال مغتربين تسلم إلى ذويهم بالعملة الوطنية، وحوالي الاثنين مليار دولار غسيل أموال أو عمليات مشبوهة، والعنصر الثالث في إدارة اقتصاد البلاد هو الاستدانة من النظام المصرفي وطبع عملة جديدة بصورة متواصلة، مع الزيادة المضطردة في تكاليف كل المعاملات الحكومية وزيادة أسعار الخدمات والضرائب والجمارك والتي يقع كل عبئها على كاهل المواطن السوداني حتى صار الرقم الرسمي العالمي في كتاب الحقائق الدولية الذي يصدر شهرياً عن المخابرات الأمريكية، يشير الى أن نسبة المواطنين السودانيين تحت خط الفقر في العام 2016 بلغت (46.3%)، أي حوالي نصف المواطنين. لذلك أرى أن رفع العقوبات الاقتصادية الكامل والذي تم الشهر الماضي، لن يكون له أثر واضح وعاجل على الاقتصاد السوداني إلا بتحقيق أمرين مهمين هما: أولاً: رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب في نوفمبر الحالي، والذي فرض في أغسطس 1993م ويجدد أو يرفع في شهر نوفمبر من كل عام.. الوضع في قائمة الدول الراعية للإرهاب يشمل في أهم بنوده عقوبات اقتصادية في ثلاثة قوانين أمريكية: الفصل (6J) من قانون إدارة الصادرات الأمريكية.. الفصل (40) من قانون رقابة صادرات الأسلحة الأمريكية والفصل (620A) من قانون المساعدات الخارجية.. إعمالاً لهذه الفصول الثلاثة من القوانين الأمريكية، تُحرَم الدول في هذه القائمة من أربع معاملات أمريكية هي: المساعدات الفنية، بيع وتصدير الأسلحة، صادرات أمريكية غير أسلحة وذات استعمالات مزدوجة وأخيراً أية مساعدات مالية.. وكذلك تُحرِّم هذه القوانين الثلاثة على الدول الأخرى أو مؤسساتها المالية والعسكرية تقديم أية مساعدات للدول المضمنة في قائمة الدول الراعية للإرهاب. واضح مما تقدم أن أثر رفع العقوبات الاقتصادية التي فرضت عام 1997 لن يظهر إلا بعد رفع اسم السودان من الدول الراعية للإرهاب والذي يتم تجديده في نوفمبر من كل عام، لأنه كما أوضحنا وضع السودان في قائمة الإرهاب يتضمن عقوبات اقتصادية مكملة لتلك التي في العقوبات الاقتصادية التي فرضت في العام 1997 لأسباب مختلفة عن التي أدت إلى وضع السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب. ثانياً: محاربة الفساد بصورة جادة حقيقية ملموسة – في هذا الصدد وبعد زيارتي الممتدة للصين قرابة الأسبوعين وحوالي الأسبوع في أثيوبيا، لاحظت عاملاً مشتركاً في الدولتين أدى في تقديري إلى نمو مضطرد لا تخطئه عين.. هذا العامل هو المحاربة الجادة القاسية للفساد في كل أجهزة الدولة دون مراعاة أو محاباة لأي مسؤول مهما طالت قامته وسطوته في الجهاز التنفيذي.. رأينا محاسبة خطيرة لزوجة أحد مرشحي رئاسة الحزب الشيوعي في الصين، مما أدى إلى انسحابه، ورأينا محاسبة وزير ومسؤولين أثيوبيين هم الآن خلف القضبان، لذلك نشأت لديّ قناعة بأن هناك علاقة عكسية بين النمو والفساد.. كلما زاد الفساد قل النمو وزادت معاناة المواطنين، ونؤكد ذلك الأرقام: في أثيوبيا: الناتج القومي للعام 2016 كان (177.8) بليون دولار، والسودان بكل ثرواته الهائلة المعلومة كان ناتجه القومي عام 2016 حوالي (172) بليون دولار.. معدل النمو في أثيوبيا عام 2016 كان (8%) والسودان (3%).. عدد المواطنين تحت خط الفقر في أثيوبيا 2016 كان (30%).. وفي السودان حوالي (47%).. ميزانية أثيوبيا عام 2016 كان الدخل (11.2) بليون دولار.. والمصروفات (13.6) بليون دولار، أي عجز (-3.3%).. والسودان الدخل (7.1) بليون دولار والصرف (11.8) بليون دولار. الصين: الناتج القومي (2030) بليون دولار، معدل النمو (7%) وعدد المواطنين تحت خط الفقر (3.3%) وميزانيتها: الدخل (2400) بليون دولار والمصروفات (2800) بليون دولار، صادراتها (2500) بليون دولار والواردات (1500) بليون دولار.. في الدولتين الصينوأثيوبيا تم اعتماد محاربة الفساد دون محاباة أو رأفة كشعار واجب التنفيذ لا يُعلى عليه. الناظر الآن إلى أثيوبيا سوف يندهش بالعمارات التجارية والسكنية والطرق والكباري المعبدة وسط العاصمة، ويرى سهولة المواصلات عبر وسائل النقل العامة وعبر المترو الحديث، ويرى خط السكة الحديد الذي يربط بين أثيوبيا وموانئ جيبوتي البحرية، ويرى أيضاً كفاءة غير عادية للخطوط الجوية الأثيوبية التي يقال إن عائدها وحده يغطي الفصل الأول من الميزانية – المرتبات. الفساد بكل أشكاله المالي والإداري والاجتماعي يتعارض تماماً مع أية تنمية، عليه لن نتوقع أية تنمية أو رفع معاناة المواطنين في ظل تنامي الفساد الذي أصبح مؤسسة قوية محمية ومحصنة يصعب اختراقها. نخلص إلى أنه يجب النظرة الشاملة الصادقة لكل ما تسبب في وضع السودان في قائمة رعاية الإرهاب، وتسبب بالتالي في فرض عقوبات اقتصادية قبل أكثر من عشرين عاماً.. يجب أن لا نفرح فرحاً خاوياً قبل رفع اسم السودان من قائمة رعاية الإرهاب وقبل إعادة النظر في كل ما تسبب في التدهور الاقتصادي ومحاسبة كل من تسبب فيه. العقوبات الاقتصادية الأمريكية جزء يسير جداً من أسباب تدهور الاقتصاد، لأنها كانت مفروضة والاقتصاد السوداني لم يتأثر بها، وكان معافىً قوياً في الفترة من 1999م حتى 2011 فترة البترول والسودان الواحد.. الفترة التي شهدت عدم الاستغلال الأمثل لعائدات البترول في تنمية المشاريع الزراعية وتأهيل وتنمية البنيات التحتية، حتى انهارت كل المشاريع مثل الجزيرة وجبال النوبة وطوكر والقاش وغيرها، وضاعت المحاصيل النقدية وأهمها القطن والصمغ العربي، وانهارت السكة الحديد والخطوط الجوية والخطوط البحرية والموانئ البحرية. التدهور الاقتصادي المستمر يؤدي إلى الانهيار الاقتصادي بمعناه العلمي، وهو عجز الدولة عن توفير وإدارة المتطلبات المالية لبقائها، وبعدمها تنهار الدولة وتعم الفوضى وينقض المتربصون على السودان من كل حدب لتحقيق أهدافهم الضارة به.. الحفاظ على السودان وانتشاله من التمزق ميسور بالتغيير الشامل شكلاً ومضموناً. تقرير:عمر البكري أبو حراز