*كان يأتينا ظهر كل يوم بالجريدة.. *يحمل في يده خوذة بيضاء يضعها على مائدة الاستقبال ثم يصيح (تشتروا وهم؟).. *وكنا نضحك…ويضحك هو…ثم يحمل (وهمه) ويرحل.. *وفي يوم خطر ببال أحدنا أن يسأله : ولماذا نشتري وهمك هذا ما دام وهماً باعترافك؟.. *فضحك من أعماقه ضحكةً ارتج لها جسده النحيل.. *ثم قال : ولماذا يشتري الناس وهمكم هذا الذي تكتبونه في جريدتكم كل يوم؟.. *ولما سكت عنه الضحك ارتسمت الجدية على ملامح وجهه.. *وواصل قائلاً : هذا الوهم من أجل أن تضمنوا لجريدتكم البقاء…يا (وهم).. *ولم ندر وقتها : أفيلسوف هو…أم مجنون؟.. *فإفادته الأولى تنم عن تفلسف ساخر…بينما الأخرى لا تُفهم إلا كمحض جنون.. *والفرق بين الفلسفة والجنون أصلاً كالذي بين الحياة والموت.. *هو فارق أرفع من الخيط ؛ ولكن أغلب الناس لا يحسونه إزاء المثال الثاني.. *بل ومنهم من يتعامى عنه…ويمني النفس بوهم الخلود.. *وفي بلدتنا – قديماً – كانت هنالك امرأة اسمها خالدة…أسقطت الموت من حساباتها.. *وظنت أنها اسم على مسمى ؛ خالدة…وسيُكتب لها الخلود.. *سيما وقد تجاوزت التسعين من العمر…وما زالت ترى ليل عمرها طفلاً يحبو.. *فلما حضرتها الوفاة – أخيراً – أنكرت…ولم تصدق.. *وظلت تنتهر – بنوبية واهنة – من أحاطوا بسريرها يترجونها ترديد الشهادة.. *وتقول ما ترجمته إلى العربية (أنا ما حصلت ده كلو).. *وما زالت كذلك – تنكر وتنهر – إلى أن فاضت روحها….ولم تتشهد.. *و(الرأي الآخر) كانت تتعرض – آنذاك – إلى توقف مستمر.. *وكانت بحاجة فعلاً إلى ضمان البقاء…والخلود ؛ ولكن ليس عن طريق الوهم.. *ليس عن طريق خوذة بيضاء…كالتي يعتمرها رجال المرور.. *وحان وقتٌ شعرنا فيه أن جريدتنا – الرأي الآخر- قد (حصَّلت ده كله)…و زيادة.. *وحدث فعلاً ما تخوفنا منه ؛ فلا رأي…ولا آخر.. *والعاقل من تعامل بواقعية مع سنن الوجود ؛ فلا بقاء…ولا دوام…ولا خلود.. *لا النعمة تبقى…ولا الصحة…ولا العمر…ولا السلطة.. *ومن أهل السلطة هذه – تحديداً – من يتمنى أنْ لو يشتري ترياقاً ضد الزوال.. *وإن كان وهماً يخادع نفسه به ؛ مثل الخوذة البيضاء.. *ثم يطمئن إلى خلودٍ كالذي آمنت به خالدة…لا يُوصل أبداً لمرحلة (ده كلو).. *ويجنبه حالة الجذع عند فقدان الكرسي.. *بل هو جذعٌ قد لا يقل عن جذع حاجة خالدة…لحظة شعورها بفقدان الحياة.. *و يا عزيزي أحمد بلال : *تشتري (وهم) ؟!. صلاح الدين عووضة – بالمنطق