غريب جداً انشغال السيد ياسر عرمان؛ نائب رئيس الحركة الشعبية شمال بالحديث المتكرر عن (جثة المؤتمر الوطني) رغم تأكيده مراراً أنها ( ماتت وشبعت موت)، أي تصريح صادر عن الرجل هذه الأيام يشعرك بأن قائله هو الحانوتي النبيل ومجهز القبور الأخ عابدين درمة . يصر عرمان على أن يحيي المؤتمر الوطني من حيث أراد له الدفن؛ فلا تجد حياة للحزب المحلول – الذي سقط نظام حكمه قبل عامين، ومات عدد من قادته داخل السجون – إلا في تصريحات ياسر وإفاداته المتطرفة. لامني كثيرون حينما استبشرت خيراً بمواقف لعرمان طرحها مع وصوله الخرطوم بعد التغيير؛ كانت تحمل بذرة تحول وإشارات وعي لسياسي ربما عركته التجارب وأنضجته المواقف، توقعت أن يكون ياسر من كبار الفترة الانتقالية أو هكذا أردنا له؛ حينما تحدث بعد نجاح الثورة في السابع والعشرين من مايو قبل المنصرم عن ( مشروع سوداني تصالحي ) لا يجعل من التغيير منصة لتصفية الحسابات والانتقام ، ولكن خاب فألي مثل كثيرين ادخروا عرمان لمرحلة يكون فيها جسراً لبلوغ العافية السياسية بعيداً عن الاحتقانات والإقصاء وذكريات الحرب والدماء، نعم أعجبني وقتها موقف عرمان، الذي أحتفظ معه بعلاقة طيبة لم يفسدها الخلاف حول ما أراه وما يتبناه، ونحن نتبادل أطراف الحوار ونستجيب لدعواته كصحفيين على طعام او فنجان قهوة أثناء دورات المفاوضات العديدة في أديس أبابا . كان حينها التغيير ساخناً والثورة تتخلق في رحم الواقع مداً من التحولات الجديدة والمشاعر المتباينة تمنيناه اعتماداً على إفادات محترمة صدرت عنه أن لا يكون منصة لتصفية الحسابات والانتقام وفش الغبينة، فحق لنا أن نحزن وعرمان ذاته ينقلب على دعوته ويتحول من قائد سياسي منتظر إلى مجرد (حانوتي) خلال الفترة الانتقالية، كل همه واهتمامه دفن المؤتمر الوطني وتعهد جثته بالتصريحات المستفزة المثيرة للغبائن والمحرضة على احتقان لاينقص البلاد. عرمان كان قد ابتدر مهمته في الخرطوم آنذاك بمد يده للتيار الإسلامي الراغب في التغيير، اثنينا على ما فعل حينها باعتباره توجهاً محترماً ينم عن وعي كبير لسياسي يدرك ما يفعل تماماً، قارنا حينها بين تصريحه وشعار (كل كوز ندوسو دوس). لا أعتقد أن هنالك من (داوس) حكومة الإنقاذ أكثر من عرمان قبل وأثناء الشراكة، ولكن هذا الأمر لم يقطع التفاوض بينه والمؤتمر الوطني ولم يضعه في مربع التشفي حينما وصل الخرطوم بعد ذهاب النظام؛ فما الذي تغير الآن ، أتراه يبحث عن ما يطلبه الناشطون أم أنه يتودد إلى القوى المصابة بفوبيا الإسلاميين فى الداخل والخارج بما يصرفه عن مهمة عظيمة تتمثل في إرساء دعائم وطن مختلف بمفاهيم جديدة تعلي من لغة التصالح وتتسامى فوق الجراح، وفي مثل هكذا ظروف يتخلق القادة العظام الذين يخلدهم التاريخ يا عرمان. حتي يوم أمس كانت آخر تصريحات عرمان ( من كان يعبد المؤتمر الوطني فإنه قد مات)، لايدري ياسر أن الشعب السوداني شيع هذا الحزب وتجربته في ساحة الاعتصام وعبر هدير الشوارع التي جاءت بالثورة، فما الجديد في الأمر ، إن لم يتم الدفن- للنظام بالطبع لا الفكرة – حتى الآن فهذا يعني أنه – أي الوطني- مازال حياً يرزق، وفي مثل هذا الأمر قصور أول من يحاسب عليه عرمان وشركاءه في الفترة الانتقالية. توقعت شخصياً أن يكون عرمان على قدر من الوعي الذي لا يستفز شريحة الإسلاميين وتيارهم العريض، تصريحاته ومثلما تابعنا في الإفطار ومراسم تشييع الدكتور الزبير احمد حسن؛ تزيدهم توحداً ومنعة وقوة وتعيد عنفوانهم إلى المشهد بصورة أقوى، نعم الأفكار لاتموت وإن ذهبت الأنظمة، وساحة المبارزة الفكرية في أجواء الحرية والديمقراطية هي الأنسب بعيداً عن العسف والتطرف والتكميم والدفن .. لا أظنني سأنصح سياسياً بقامة عرمان، وأذكر بأن فوارق التسميات لاتهم في عقيدة الإسلاميين حينما يتحدث عن هذا وطني وذاك حركة إسلامية ، ( كلو احمد وحاج احمد ) ياعرمان ، فالأجدى أن توفر على الوطن تبعات الاحتقان والتصعيد والاستفزاز خاصة وإنك من في مقام المسؤول عن الجميع في هذا البلد بحكم شراكتك في كابينة قيادة الفترة الانتقالية ، إذا لم تعد ناشطاً صغيراً يمارس العداء من إذاعة الحركة الشعبية على أيام سجالها مع الإسلاميين قبل أن تصبحوا ( لبن على عسل وراسين في طاقية ) وفقاً لشراكة امتدت خمسة أعوام كان فيها عرمان صديقاً وشريكاً للإسلاميين وللمؤتمر الوطني. إن كنت تعتقد أن المؤتمر الوطني قد مات وشبع موتاً ، فترحم عليه و(امشي قدام)، واترك جثته لذويه ( يدفنوها او يخللوها) طالما وسعت له الحفرة حتى (سقط تب) وانصرف يا عرمان إلى مرحلة البناء المطلوب فتصريحاتك ما زالت بعيدة عن ملامسة الواقع المؤسف في كل شيء. لماذا لا يدير عرمان من موقع مسؤوليته حواراً لإنهاء تعقيدات الفترة الانتقالية المتمثلة في الأزمات الطاحنة التي يعيشها السودانيون، ألا يهمك مأكلهم ومشربهم وغازهم وخبزهم وفومهم وبصلهم وكهربتهم .. لماذا لا ينبس ببنت شفة، فيما يواجه مسيرة العدالة بالبلاد، إحدى المبادئ المهمة في نفستو الثورة، أين عرمان من ما تتعرض له الحريات؛ إيقاف الحلقات والبرامج، ما رأيه في بقاء معتقلين بلا تهم وسجناء بلا قضايا، هل تكرم لنا برأيه في اعتقال صديقه البروفيسور إبراهيم غندور رئيس الحزب الذي يتجول الآن حاملاً جثته بين الأسافير، وما هو موقفه من تأخير تكوين المجلس التشريعي؟، مازلنا نبحث عن الثائر عرمان، داعية الإصلاح والتحول الديمقراطي والمهموم بالحريات وحقوق الإنسان فلا نجده. أتمنى أن يترك عرمان جثة المؤتمر الوطني فأهلها أولى بسترها، ويتبنى بحكم تجربته الكبيرة طرحاً يليق بالكبار، ولا يجعل من التغيير (فترة انتقامية) بل يتخذه جسراً لبناء السودان على أسس جديدة من القبول والتراضي والتوافق، بعيداً عن الإقصاء و الغبينة وتصفية الحسابات واستدعاء ذكريات الحرب والدماء، أربأ بك يا عرمان أن تكتفي بدور (الحانوتي) خلال الفترة الانتقالية. محمد عبد القادر صحيفة اليوم التالي