لا أذكر متى عرفته و كيف !! و لكن بعد ذلك تبين لي كيف أن الرجل قد اختصه الله بقدرة فائقه على اجتذاب الناس إليه .. وهي الخاصية ذاتها ، التي أودعها الله الزهرة ، فيتداعى إليها النحل من كل فج ليرشف رحيقها .. و رحيقه كان مبذولاً و غامراً ومُبهِجاً .. و كان ترددي يتوالى على داره ، كلما جمع أحبابه و أصفياءه ، لأنعم بلحظات تحيي موات قلبي ،و تُنعش فؤادي وتزيل عنه الرَّانَ والكدرَ .. و أنا إذ أفتقِده ، كما افتقَده من لا أحصيهم عدَّاً ، من خلصائه و ذوي مودته ، فإني أستشعر عِظم الفقد و ذلك الفراغ الذي سَيَلُفُ نهاراتنا و ليالينا من بعده .. إن محاسنه لا تُستقصى و بِيض أياديه لا تُحصى و مَراقِي جوده لا يُعلى عليها .. فالكل قد شهد له .. شهدوا له بأنه كان من الكاظمين الغيظ و العافين عن الناس .. و شهدوا له بأنه كان عفيف اللسان نقي الجِنان .. و شهدوا له بأنه كان لين الجانب سهل القياد موطأ الأكناف مبسوط الجبين .. و شهدوا له بكل صفة تجعل من صاحبها غِذاءَ القلوب و دواءها .. و هو ما أوجزه صديقنا الشفيف اللطيف ( إبراهيم الكوباني ) ، في أنه كان سيرة عطرة و مَناقِب تمشي بين الناس على رجلين .. و هو ماعبر عنه صديقه الأقرب الأثير ( عبدالله البشير ) ، في مرثيته المُعبرة الموجعة .. ( إنت كرمك دِيمَه فايِض بِتَكْرِم الزول لو غِشَاك إنت قلبك صافي وابيض ماشُفْت أصلاً زي " وفاك " ) لقد كان عصام كالخيط ، الذي لولاه ، لما انتظم هذا العقد النضيد الفريد .. ففي داره الرحيبة ألِفْتُ الكثيرين ، من الأفاضل ، الذين انعقدت بيني و بينهم وشائج أنضر الصلات .. تعرفت إلى الفريق الرقيق ( محمد عبدالمجيد ) ، و اقتربت من الوقور ( محمد اسماعيل ) ، والراقي ( سيف حاج الصافي ) والشاعر الأنيق السفير (معاوية التوم) ، و الجميل (هاشم أحمد المصطفى) ، و ازددت قرباً من سيد النبلاء البروف ( قاسم بدري ) ، كما حظيت بحفاوة و محبة ( المهندس عمر أبوالقاسم ) ، و أسَرَني لطف وتواضع ورقة ( عمر مُنَّور ) ، و بدا لي الوجه الآخر للفريق ( صلاح الشيخ ) ، و توثقت آصرة المحبة بيني و بين الرجل الخلوق المرحوم الدكتور ( عمر الأمين ) و حرمه ( نادية ) ، و كان لقائي الأول بمن تسعدك صحبته ( كامل عزالدين " سابنتود " ) ، و كنت آنس إلى الودود ( عادل دفع الله ) ، و ( عبدالوهاب الأمين ) ، و ( مروان دهب) ، و ( عمر الهلالي ) بعيداً عن أسوار الدار ، و الذي تمنيت أن لو كانت معرفتي به أبدر وأبكر ، و يكتمل سروري بحضور صديقي الوجيه ( أحمد البشير ) ، ورؤية من تَسُرُ رؤيته ( علاء خالد ) ، الذي شهد نزُلُه بالرحاب في ( القاهرة ) لقاءنا الأخير ( بعصام ) ، فبعد أن انقضت المناسبة التي جمعتنا ، وهي زواج ( مي ) كريمة الصديق ( عبد المنعم الشيخ ) و حرمه ( هنادي كروم ) ، أصرَّ ( عصام ) ، أشد الإصرار ، في اليوم التالي ، على حضوري و أخي ( عبدالله البشير ) ، و قد نحر لنا (علاء) ذبيحة ما كان ينبغي لنا أن لا نطعمها ، فذهبنا والليل قد انتصف ليغمرنا الأخ ( علاء )بكرمه الفياض ، و وجدنا ( عصاماً ) يعاني ( العِلة ) ، التي لم نكن ندري أنها ستطوي أيامه الأخيرة في الحياة الدنيا ، لينتقل بعدها إلى ربٍ غفورٍ رحيم .. و بعدها .. افترقنا و تفارقنا و تفرقنا و ها أنذا أنعيه بقلبٍ نازفٍ مفجوع .. و أكاد لا أصدق ، لولا أن الموت حق ، و (كُلُّ نَفْسٍۢ ذَآئِقَةُ 0لْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُم بِ0لشَّرِّ وَ0لْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ) .. الراحل عصام عبدالحميد – طيب الله ثراه نعم .. لقد كان (عصام عبدالحميد) كالبحر .. يقذف للقريب جواهراً جوداً ويبعث للبعيد سحائباً .. كان كثيراً ما يبذل لنا الدعوة ، تلو الدعوة .. و لحظة أن تلج ( الدار ) ، فخذ راحتك للآخر ، فأنت في (بيت عصام) ، و اعتبر نفسك واحداً من آل البيت ، الذين تجدهم في خدمتك ، على قدم وساق ، باخلاصٍ و طيب خاطر .. تجد الدكتورة البشوشة (وفاء مقبل) التي هي و (عصام) صِنوان في الحفاوة و الكرم و حُلو الشمائل .. و تجد أبناءه البرره ، (أحمد) و (مبشر) و (عبدالحميد) و إبنته المبرورة الطبيبة (نعمات) ، و هم يباشرون الجميع بأريحية و بلا ( كَشَرة ) .. و إذا ما دعاك ، فأنت بوسعك أن تصطحب معك من تشاء ، فُيحسن استقباله ، و يُبدي من السعادة بحضوره و كأنك قد جئته بصديق له قد طال عهده به و انقطع ، وأنها ليست المرة الأولى التي يراه فيها .. و إذا أردت أن تنصرف فلا تستأذن منه فإنه لن يسمح لك فبوده أن يستبقيك إلى جانبه حتى مطلع الفجر ، و هذا ماكنا نفعله أنا و صديق الأسرة ( عادل أحمد إدريس ) .. و إذا أردت أن تغادر المائده فَتَحَيَن فرصة إنشغاله إذ أنه يظل يطعمك بإصرارٍ حتى تتضلع شبعاً .. و إذا تَلفَّت يُمْنةً أو يُسرى طلباً لشيءٍ ، تجده مسرعاً ملبياً وبُغْيَتُك بين يديك .. و إذا غبت عنه يُلحِفُ بالسؤال عنك ، وتظل أشواقه تلاحقك وكأنه لا يعرف سواك فقولوا لي بربكم ، من يَقوى على هذا !! و من يحتمل هذا ، غير ( عصام عبدالحميد ) !! لذا فإن سُئِلت عن أوصاف ( شيخ العرب ) فقل بملئ فيك إنها مركوزة في ( عصام عبدالحميد ) .. و إن سئلت عن أوصاف ( واسطة العقد ) فإنك واجد سيماها على جبين ( عصام عبدالحميد ) .. و إن سُئِلت عن أوصاف ( حامل المسك ) الذي تلاحقك رِيحُهُ الطيبة ، فمن يكون غير ( عصام عبدالحميد ) ، الذي رحل !! رحل مخلفاً وراءه سيرة زاكية ، و نفوساً بقضاء الله و قدره راضية .. اللهم ارحمه واغفرله وآنس وحشته ووسع قبره . اللهم اجعل عيده في الجنة أجمل . اللهمّ اجعل قبره روضةً من رياض الجنّة، ولا تجعله حفرةً من حفر النّار . اللهم ارحمه رحمةً تسع السماوات والارض . اللهم اجعل قبره في نور دائم لا ينقطع واجعله في جنتك آمناً مطمئنًا يارب العالمين.. و ( إنا لله و إنا إليه راجعون ) .. و السلام .. أم درمان 25 فبراير 2022