حانت أوقات كثيرة كان على القوى الحداثية في السودان ألا تأخذ العالم على عواهنه. فغير خافٍ أن الليبرالية العالمية كانت تتغير تغييراً خفي عليها لأنها كانت تعيش على سقطه. فعاشت في المعارضة أكثر حياتها وتعودت من العالم الإحسان إليها في قضيتها بالتضامن معها بصور مختلفة. وما نهضت في يومنا لوقف حرب الجنرالين العبثية، في قولهم، وطلبوا نجدة العالم حتى وجدوه متثاقلاً أو بلا حيلة. فطلبوا منه طوال الحرب التدخل العسكري لحماية المدنيين من انتهاكات الطرفين ليقول لهم مجلس الأمن صريحاً أنه مقيد اليدين. قال الزعيم السابق للإسلاميين في السودان الدكتور حسن الترابي أن جاءه زميل دراسة شيوعي في مدرسة حنتوب الثانوية في أوائل خمسينيات القرن الماضي ل"يجنده" لتنظيمهم في المدرسة. ففاتحه بقول إن العالم ينقسم إلى معسكرين، معسكر الاشتراكية والسلم بقيادة الاتحاد السوفياتي ومعسكر الرأسمالية والحرب بقيادة الولاياتالمتحدة. وقال الترابي إنه سأل زميله، "وأين موقعنا نحن في هذا العالم؟". لا أعرف إن وقفت جماعات الحداثة السودانية التي تجتمع في مثل "صمود" والحزب الشيوعي وغيرهما أخيراً لتسأل نفسها عن منزلتها في عالم تغير كثيراً بشهادة أهل الحل والعقد فيه. فقد انتهت هذه الجماعات إلى عقائد وحساسيات مستقاة من الليبرالية العالمية التي أنشأت النظام العالمي حول الأممالمتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، ثم أنهت التاريخ بعد نصرها في الحرب الباردة. واستظلت هذه الجماعات بالليبرالية العالمية لا بعد أن تداعت عقائدها في القومية العربية والماركسية والاشتراكية والليبرالية وحسب، بل بعد أن تقطعت حبالها مع جهرة شعبها أيضاً جراء استهلاكها لنفسها في مقاومة باسلة ضد نظم استبدت في السودان لنحو 50 عاماً من عمر استقلاله البالغ 70 سنة. فلما طوت النظم الماركسية خيامها في أوروبا الشرقية فتح الحزب الشيوعي ما عرف ب"المناقشة العامة" التي دارت في مجملها حول أنه ربما جاء الوقت لرمي طوبة الماركسية كمرشد في ممارستهم. واحتفظوا بها في خاتمة الأمر تجملاً، في حين أعطوها الكتف الباردة في نظرهم للأشياء. ولم يمنع تهافت فكر القومية العربية بوجوهه كلهامن وجود ثلاثة أحزاب ل"البعث" في يومنا ورابع ناصري وغيرها. أما المستقلون من ذوي الميل الليبرالي، فاتجهوا بطاقتهم خلال مقاومتهم لنظم الديكتاتورية التي ابتلوا بها للانتماء فرادى إلى جماعات الهامش المسلحة التي لا يملكون من زمام أمرها شيئاً. ولما استنفدت هذه الجماعات مواردها استظلت بالليبرالية العالمية. فإذا طلبت تحرير المرأة دفعت باتفاق "سيداو" (1979) الذي أرادت به الأممالمتحدة القضاء على كل أنواع التمييز ضد المرأة. وهو الاتفاق الذي أثار حفائظ حتى في بلد المنشأ. وإذا أرادوا إنصاف الهامش بوّبوا الحلول على نظرية العرق النقدية التي تنأى بها الجماعة المهمشة عن الوطن في كهف غائر، كما تجسد في عزل الحركة الشعبية (عبدالعزيز الحلو) لجبال النوبة عن سائر الوطن. وإذا أرادوا العلمانية،أرادوها منتجاً خالصاً خلا من هاجس هوية البلد في دينه، لا عملية تستصحب هذه الهوية وتوطنها بذكاء. فمن ذلك أنه إذا أرادت جماعة ما أن ينبني التشريع للبلد على دين أهله، اعتزله الحداثيون كممثل ل"الإسلام السياسي" وحرموا أنفسهم من نفع الجدل معه على مرأى من الناس. وعليه لم تعُد هذه الجماعات تصدر عن فكر اختمر في قرارتها تذيعه بين الناس من فوق حركة اجتماعية للتربية والتعبئة تتغلغل وسطهم وتجعل من برامجها وعياً لا مهرب منه. الوصول إلى المنعطف يتفق المحللون على أننا في منعطف عصر ما بعد الليبرالية الذي أخذنا بواقعيته بعيداً من الليبرالية العالمية. وهي الليبرالية التي رأينا جماعتنا الحداثية في السودان تعيش على سقطها. فكتب مايكل هيرش عن نهاية هذه الليبرالية مقالة عنوانها "لماذا كل من في واشنطن واقعي الآن؟"، انتهى فيها إلى أن الواقعية هذه جاءت لتبقى لا لتغادر متى غادر الرئيس ترمب البيت الأبيض. ولا يختلف الجمهوريون عن الديمقراطيين حول أن سياسة أميركا الخارجية التي انتهجتها كشرطي العالم بعد الحرب العالمية الثانية صارت إلى خرائب. فنشأ وسطهما جيل جمرته "جيوبوليتيكا" الشوكة ونكساتها مثل حالهم في التدخل في العراق وصدمة الصعود الصيني. وهو بخلاف الجيل السابق الذي رأى جميلاً في كل ما تقع عينه عليه من فرط تفاؤله بمركزية أميركا في العالم. وعلى يد هذا الجيل الجديد سقطت "الليبرالية العالمية" التي ترافقت مع دور الشرطي الأميركي. فمع اختلاف الطائفتين المعروف، إلا أنهما على اتفاق بوجوب النهج الواقعي في السياسة الخارجية الذي يتمثل لا في خفض التوقع مما بوسع أميركا تحقيقه في العالم وحسب، بل في أن ترعى مصالحها الخاصة. فأجحف بروز الصين والتجارة المفتوحة بالطبقة العاملة الأميركية، مما أدخلها في ردة شعبوية ضيقاً بالصفوة. فتريد هذه الواقعية المستجدة أن تمدد أميركا لحافها قدر ساقيها، فتنسحب من أوروبا والشرق الأوسط وتترك لأوروبا قيادة "الناتو". وليست هذه الواقعية قاصرة على الجمهوريين، فيقول الديمقراطيون إنه لا احتكار لأحد على الواقعية في السياسة، وإنهم لن ينتظروا نهاية عهد ترمب ليعودوا أدراجهم لليبرالية العالمية بانشغالها الحثيث بالقيم مثل نشر الديمقراطية. فهم لا يرون علة في الواقعية التي انتهجها ترمب سوى أنه لم يحسنها وأربكها. فعزيمة الديمقراطيين ألا يعودوا ببساطة للسياسة الخارجية الرسالية الماضية، بل أن ينفذوا من واقعية ترمب إلى واقعية أكثر واقعية. دخول الدين على السياسة ودخل الدين بكثافة على السياسة في دولة نهاية الليبرالية العالمية كما نرى في أميركا بجلاء. ولم يدخل عن "هوس سياسي" كما قد يتبادر إلى ذهن من تعود على فصل الدين عن الدولة وبات يرى فيه الكلمة النهائية في السياسة والدين معاً. ومن بحث عن دخول الدين في السياسة سيرى أنه ثمرة حركة سياسية عرفت ب"اليمين الديني"، مسهدة لعقود لم تستسلم لفتوح العلمانية، وسهرت على نقضها بالدعوة المصابرة حتى تغلغلت عروق مجتمعها، وخلقت الكتلة الحاسمة في مصطلحهم لمسألة أزف وقتها. وإذا أردت معرفة هذا التغلغل المثابر عن طريق الدعوة لأوبة الدولة للدين، فتأمل خدمة الدكتور جيمس دوبسون (1936) القس الإنجيلي الذي توفي الأسبوع الماضي للمسألة. فدوبسون طبيب نفسي للأطفال كان من وراء الأصولية المسيحية التي نقضت غزل التربية الليبرالية للأطفال السائدة في يومنا وغلبت في فقه الأسرة في الحزب الجمهوري. فكان دوبسون في جيل الستينيات وحركة مناهضة الحرب التي تداخلت فيها المخدرات بتغيير القيم الجنسية التقليدية. فمجّت نفسه ما رآه من سوء أدب عائد لرخاوة الوالدية بعد الحرب العالمية الثانية من دون أخذ ذريتها بالشدة في تنشئتها. ودعا إلى العودة لنهج المسيحية التقليدي في تربية الأطفال بمبدأ "أجرؤ على تأديب طفلك". وجعل من تلك الدعوة مبلغ همه، وترك مهنة الطب ليفرغ لدعوته، فأنشأ للغرض برنامجاً إعلامياً هو "العائلة في مركز الدائرة" للترويج للقيم المسيحية الأصولية. وكان يجتمع حول برنامجه 7 ملايين مشاهد واحتل مبنى مؤسسته 80 فداناً من الأرض في ولاية كولورادو، يقوم بالخدمة فيها 1300 موظف، ودرّت دخلاً قيمته 140 مليون دولار عام 2005. ثم تنحى عن البرنامج في 2009 ليؤسس مركزاً لأبحاث الأسرة في واشنطن بمثابة "لوبي" للأصولية المسيحية لتجسير مغازيها للمشرعين في الكونغرس. وكان شهد نصر هذه الأصولية بانتخاب الرئيس ريغان عام 1980. ثم خدم الرئيس بوش وصار مستشاراً دينياً للرئيس ترمب خلال حملته الانتخابية. وحمّل دوبسون الليبرالية مغبة تداعي العائلة التي هي عنده الصخرة التي لا قيام للحياة إلا عليها. وشخّص تداعيها راجعاً إلى خروج المرأة الأم للعمل وشيوع مضادات الحمل والجماع قبل الزواج. وأدخل الإجهاض ضمن خرائب الأسرة، مما كان شاغل الكاثوليك دون البروتستانت قبلاً. وفي فلسفته لتربية الأطفال صدع بالقول بلا تحفظ إن الضرب ينفعهم كما لم يتفق لثقافة الأميركيين آنذاك وإلى يومنا ربما. فقال إن على الوالدين أن يرسموا حدوداً صارمة لأطفالهم مقاليدها بيدهم هم، والضرب أداة فيها لا مناص منه، ودعا إلى الضرب غير المبرح حتى لا يتحول إلى مساءة. وهذا الضرب في قوله سبيل الوالد المسيحي والوالدة لينقلا محبة المسيح لذريتهما. ما بعد الليبرالية يتفق المحللون على أننا في منعطف عصر ما بعد الليبرالية أخذنا بالواقعية بعيداً من الليبرالية العالمية التي رأينا جماعتنا الحداثية في السودان تعيش على سقطها. وقال الكاتب الراتب في مجلة "فورين بوليسي" ديفيد فرنش إن الردة على الليبرالية جاءت لتبقى إلى حين، وأضاف أن علينا ألا نتوهم أن ما نراه من طي لبرش الليبرالية في أميركا خصيصة "ترمبية" وستذهب متى ذهب. فالسلطات الرئاسية التي وظفها لإبطال الليبرالية في صلب الدستور الأميركي في مادته الثانية. وهي السلطات التي ما طبقها رئيس بغير وازع جعلت منه "رئيساً ملوكياً". وكان سبقه إلى الفكرة فريد زكريا في برنامج خصصه ل"الرئاسة الملوكية "التي قال إنها ظاهرة تفشت في القرن ال20 الأميركي. وزاد فرنش أن هذه السلطات ليست واسعة وحسب، بل لا يوجد كابح مذكور لها. والشكوى من مغبتها قديمة، أثارها من عُرفوا ب"خصوم الفيدرالية" في باكر أيام الجمهورية ممن خشوا أنها ستعيد إنتاج الملكية عليهم التي كرهوها من بريطانيا. ولم يجد جيمس ماديسون أمام الفيدراليين ما يطمئنهم به دون مخاوفهم إلا القول إن بوسع الكونغرس إدانة رئيس الجمهورية ونزعه عن سدة الحكم. وقال فرنش إن هذا التدبير محكم إلا أنه ظل نظرياً. فلم يتفق أبداً لأعضاء حزب الرئيس في الكونغرس إدانة صاحبهم وتجريده من السلطان. واعتمد الأمر ولا يزال على شخصية الرئيس نفسه إن أراد القسط في ممارسة سلطاته الواسعة أو أنه مضى إلى نهاية الشوط. "وأين موقعنا نحن من العالم؟" حانت أوقات كثيرة كان على القوى الحداثية ألا تأخذ العالم على عواهنه، فغير خافٍ أن الليبرالية العالمية كانت تتغير تغييراً خفي عليها لأنها كانت تعيش على سقطه. فعاشت في المعارضة أكثر حياتها وتعودت من العالم الإحسان إليها في قضيتها بالتضامن معها بصور مختلفة. وما نهضت في يومنا لوقف حرب الجنرالين العبثية، في قولهم، وطلبوا نجدة العالم حتى وجدوه متثاقلاً أو بلا حيلة. فطلبوا منه طوال الحرب التدخل العسكري لحماية المدنيين من انتهاكات الطرفين ليقول لهم مجلس الأمن صريحاً إنه مقيد اليدين. ولو استقام لهذه الجماعة الحداثية أنه لشدة ما تغيرت أحوال العالم الذي نُزعت منه بركة الليبرالية، لربما جاؤوا بأفضل مما انتظروا منه. فالمتغطي بالعالم، في عبارة سودانية، عريان. عبد الله علي إبراهيم إنضم لقناة النيلين على واتساب مواضيع مهمة ركوب الخيل لا يناسب الجميع؟ أيهما أصعب تربية الأولاد أم البنات؟ جسر الأسنان هل تعقيم اليدين مفيد؟ الكركم والالتهابات أفضل زيوت ترطيب البشرة