يقول المثل: (جو يساعدوهو في دفن أبوهو دسَ المحافير)، ومعناه أن شخصاً توفى والده، وعندما حضر الناس لمساعدته في عملية الدفن قام من شدة (غتاتته) وحسادته بإخفاء أدوات الحفر. تذكرت هذا المثل عندما أشكل عليّ معرفة معنى كلمة باللغة الإنجليزية فبحثت عن القاموس لمعرفة معناها الدقيق بدلا عن التخمين معتمداً على سياق الجملة، وذلك ليقيني أنه لا يعرف جمال اللؤلؤ إلا الغواصون، وتوجهت بعد فشلي في العثور على قاموس نحو موقع (غوغل للترجمة) على شبكة الإنترنت لمعرفة معنى الكلمة، ولكن للأسف وجدت أن الموقع محجوب عن السودان ووضع بدلاً عنه إعلان بلون أحمر قانٍ للدلالة على المستوى العالي لدرجة الحجب، فظننت لوهلة أن السلطات الأمريكية قامت بتشديد عقوباتها ضد السودان بعد أطمئنانها على انفصال الجنوب بسلام، وذلك عبر حجب مواقع أمريكية توفر خدمات مجانية لطلاب العلم في جميع أنحاء العالم إلا المغضوب عليهم والضالين المرغوب في إدخالهم بيت الطاعة الأمريكي، وكانت المفاجأة الكبرى بالنسبة لي عندما أمعنت النظر في نص الحجب وجدت أن الهيئة القومية السودانية للاتصالات هي من قامت بالحجب، وليست السلطات الأمريكية. أصبح موقع (غوغل) في ظل ثورة الاتصالات من أهم المواقع العالمية من حيث توفير المعلومات، حيث يوفر خدمات مجانية عديدة منها على سبيل المثال محرك بحث يعد الأضخم من نوعه، وخدمة بريد إلكتروني تتميز بكبر السعة التخزينية مقارنة بالشركات المنافسة، وخدمة تحديد المواقع الجغرافية التي تعمل بالنظام الأمريكي الدقيق (GPS) ) الذي لا ينافسه حتى الآن أي نظام مماثل، وللمعلومة يطمح الإتحاد الأوربي في إطلاق مجموعة أقمار صناعية لتشغيل منظومة مماثلة تسمى (جاليليو)، وذلك تيمناً باسم عالم الفلك الأشهر في التاريخ، وقد وصلت شهرة شركة (غوغل) وقوة تأثيرها لدرجة دخول فعل مقتبس من اسمها مرادف لمعنى (بحث عن الشيء) في بعض القواميس العالمية، فصار يقال للتأكد من عدم صحة معلومة ما (Did you google it) هل بحثت عنها)، ويحضرني أنه في حوار تلفزيوني على قناة غربية أدعى أحد المحاورين وقوع مظاهرة في مكان ما، فما كان من مقدم الحلقة إلا وقال له بكل ثقة (لم تحدث تلك المظاهرة فقد بحثت أثناء حديثك عن خبر حولها في موقع (غوغل) ولم أجد شيئاً). كان من ضمن سياسات التعليم العام والعالي لحكومة الإنقاذ في (طبعتها الأولى) التعريب، وتقليل جرعات اللغة الإنجليزية في المناهج المدرسية والجامعية وجعل اللغة الإنجليزية مادة اختيارية، ولكن هذه السياسة انتكست بعد سماح وزارة التربية بقيام مدارس خاصة يحمل بعضها مسميات ذات دلالة تربطها بمؤسسات تعليمية إنجليزية عريقة تقوم بتدريس معظم موادها باللغة الإنجليزية، وقد ترتب على هذا التطور حدوث تفاوت كبير بين المدارس من حيث مستويات الطلاب في اللغة الإنجليزية، حيث تعجز معظم الأسر الفقيرة ومتوسطة الدخل (إن وجدت) في إدخال أبنائها في تلك المدارس المتميزة، وازدادت هذه الفجوة في ظل انعدام المكتبات المدرسية، والعامة المجانية فصارت الهوة هاوية. أما على المستوى الجامعي فقد تم تعريب معظم مناهج جامعة الخرطوم الحكومية بينما تمسكت جامعة الأحفاد للبنات، وبعض الجامعات الخاصة الأخرى بالتدريس باللغة الإنجليزية، ومازالت جامعة الخرطوم تنوء تحت وطأة آثار تلك السياسة، حيث ترتب عليها تراجع المستوى التنافسي لخريجي الجامعة في منح التأهيل الخارجي باللغة الإنجليزية إضافة لعزوف سوق العمل الخليجي وزهده في خريجي الجامعة ما بعد ثورة التعليم العالي. أستطيع أن أتفهم قيام السلطات السودانية بحجب المواقع التي تعرض الفتيات وهن يرتدين ما قل ودل، والمواقع التي تنشر معلومات كاذبة تضر بالأمن القومي للبلاد أما أن تحجب موقعاً عالمياً مفيداً يقوم بتوفير خدمات مجانية لمواطنين عجزت حكوماتهم عن توفيرها ففي ذلك منتهى (الغتاتة) والحسد من حكومتنا الرشيدة، والمثل يقول (ضربة أسد ولا نظرة حسد). ففي ظل نظام العولمة السائد وصل الأمر ببعض الدول المتقدمة اعتبار حق توصيل خدمات الانترنت في المنازل من ضمن الحقوق الأساسية للإنسان، كيف لا وقد أضحت ينابيع المعرفة تتدفق مياهها فوق ربوع الانترنت التي أدت إلى انكماش الزمان والمكان، أما حكومتنا القادرة فقد قامت بحرمان من أستطاع من شعبها (شعب الله المحتار) من الوصول لبعض المواقع المشروعة التي فيها فائدة للعباد والبلاد، وهي سياسة وصائية تهدف إلى فرض حجاب بل نقاب على حرية فكر الشعب بدلا من أعتبار تلك الخدمات المجانية (غنيمة حرب) في ظل أستمرار الحصار الذي تفرضه أمريكا على بلادنا دون وجه حق، وقد غاب عن حكومتنا وهي تحجب مثل هذه المواقع المفيدة أن بعض خبراء الانترنت المتطوعين في العالم صاروا يتفننون في ابتكار سبل فك شفرات الحجب ونشرها مجانا عبر شبكة الانترنت، فالثمرة المحرمة حلوة كما هو مستفاد من قصة أبو البشر آدم (عليه السلام)، ولا ننسى أن حكومتنا قامت بإغلاق باب الراديو في وجه الإذاعة البريطانية (BBC)، فقامت الإذاعة البريطانية بالدخول للسودان عبر شباك الراديو المصاحب للستلايت، فأصبح المواطن السوداني يلتقطها بصحنه العادي، وقد صدق القائل بأن أشد الناس قلقا في السجن هو المأمور. الراي العام