« تنفيذ الاتفاقية أقل تكلفة من الحرب » حكمة القى بها لسان الراحل د. جون قرنق القائد المؤسس للحركة الشعبية لتحرير السودان، وتجيء العبارة وكأن الراحل الشهيد كان ينظر بعين التوقع الى ما سيؤول اليه حال اتفاق نيفاشا للسلام الموقع بين الحكومة « المؤتمر الوطني » والحركة الشعبية لتحرير السودان وبمثلما تصلح المقولة لمحاكمة واقع الاتفاقية التي قتلها الشريكان خرقا بفعل لعبة المساومات والمناورات التي حكمت علاقتهما جهة تنفيذ الاتفاق عند كل بند من بنوده حتى فارقت نيفاشا الان . نيفاشا لحظة التوقيع فانتج التشويه المستمر من قبل الشريكين بفعل المساومات ومحاولة كل طرف ادخال هدف في مرمى الثاني ، نسخة جديدة مشوهة عن الاولى ، بمثل ذلك فان العبارة تصلح شاهدا على الاتفاقية وتنفيذ بنودها قد افتقد حقيقة شخص في حجم القائد د. جون قرنق وعبارة قرنق اعلاه باغتتني ساعة الاطلاع على خبر مفاده ان الحركة الشعبية لتحرير السودان ستهدد بمناقشة تخصيص 70% من الميزانية للأمن في المجلس الوطني في حال اثارة قضية اسلحة السفينة الاوكرانية، وتقول تفاصيل الخبر ان الهيئة البرلمانية لنواب الحركة الشعبية قد طالبت بفتح الباب واسعا امام التحقيق حول اوجه صرف الاموال المخصصة للأمن والمقدرة بنسبة 70 % في موازنة الدولة الى جانب قضايا التسليح في حال طلب المجلس الوطني احاطة من وزير الخارجية دينق الور حول صحة تبعية اسلحة السفينة الاوكرانية للجيش الشعبي . وكم كان مسؤولا ووطنيا ومنحازا جهة القضايا الوطنية الملحة وتنفيذ الاتفاقية والتحول الديمقراطي لو أن ياسر عرمان رئيس كتلة الحركة الشعبية بالمجلس الوطني قد القى بمطالبته هذه في سياق مسعى يكشف همة حزبه في فتح هذه الملفات خاصة وأن عرمان يعلم تمام العلم كما قال هو في تصرحه ان قضايا الفقر والتنمية والاعمار هي التي تستحق ذلك الصرف غير ان شرط اثارة هذه القضايا الذي دفع به عرمان يشكك في مصداقية الرجل ولا يمكن النظر الى مسعاه هذا الا في اطار الابتزاز المتبادل الذي اتسمت به علاقة الشريكين جهة تنفيذ اتفاق السلام وهو الابتزاز الذي ابتدره المؤتمر الوطني ، وسارت على نهجه الحركة الشعبية لتحرير السودان، والغريب هو ان الحركة ليست في حاجة لان تبتز في هذه النقطة تحديدا المتعلقة بقضية سفينة الاسلحة الاوكرانية فالسيد عرمان يدفع بعدم صلة الجيش الشعبي بالسفينة وبأن الاتفاقية قد نصت على حق جيش الحركة في التسلح ، وان الحركة ليس لديها ما تخفيه ولا يوجد مايثيرها في هذه القضية التي تعتبر بحسب عرمان قضية عادية ولا يجب ان يخلق منها موضوع ، فاذا كان الامر كذلك فما الذي يخشاه عرمان وما سبب اللجوء الى لغة المساومات التي صارت طابع الشريكين في علاقاتهما مع بعضهما البعض. ويبدو جليا ان محصلة السير في هذا الطريق من قبل الشريكين الوطني والشعبية هو القضاء المبرم على اتفاق رأى فيه السودانيون رغم قصوره جهة نظره للمشكل السوداني كصراع بين شمال وجنوب دون النظر الى الأزمة السودانية في شمولها بحيث تشمل مطالب المجموعات المتعددة أكبر محاولة للخروج من الأزمة السودانية ، وكان هذا ممكنا اذا ابتعد الشريكان عن هذه اللعبة الخطيرة الابتزاز المهددة للاتفاقية واتجها صوب الانحياز الخلاق جهة التنفيذ الخلاق لبنود الاتفاق بندا بندا بحسب تعبير الرئيس البشير عندما أكد من قبل مثل هذا الالتزام ولكن يبدو واضحا وجليا ان الاختلاف في شكل وتكوين الشريكين وتباعد الثقة بينهما وعدم توفر الصدقية اللازمة اضافة الى ابتعاد الشخصيات والرموز الموقعة على الاتفاق اضافة الى عدم رغبة المؤتمر الوطني في اجراء تغييرات هيكلية حقيقية تسمح باقتسام السلطة وكل ذلك يلجيء الشريكين الى تغليب منطق المناورات والمساومات والابتزاز اضافة الى ضعف التنظيمات والقوى السياسية في الشمال ولعل النظرات الرؤيوية التي رسمت في السابق تصورا يشبه مثل هذا الواقع المعاش كانت موجودة على الدوام ومنطلقة من هذا الاختلاف الذي اشرنا اليه والتي حكمت بأن مايسود من مساومات من قبل الشريكين لن يؤدي في المحصلة النهائية الا الى تهديد الاتفاقية نفسها . ويلاحظ بيتر أدوك نيابا أن التداعيات المصاحبة لضعف أداء المؤسسات القومية التي اوجدتها اتفاقية السلام الشامل لا يمكن أن تعني إلا شيئاً واحداً: نقض الاتفاقية نفسها. وهو ما لا يمكن أن يحدث دون المخاطرة باشعال الحرب والنزاع مرة أخرى ويلجأ نيابا مستشهدا الى د.جون قرنق بقوله ان د. جون قرنق قد ذكر ذات مرة انه بمقارنة التكلفة يتضح جلياً أن التكلفة الاقل هي تطبيق الاتفاقية وليس تجديد النزاع، ويمضي نيابا بالقول لذلك يجب إلا نعطي لأي قائد سواء في المؤتمر الوطني أو الحركة الشعبية، الحق في التلاعب بمصير هذا البلد، برفض تطبيق نصوص اتفاقية السلام أو بعدم الحرص علي متابعة الأداء الوظيفي السليم للمؤسسات القومية التي اوجدتها. لابد من تأكيد أن اتفاقية السلام الشامل هي تسوية سياسية جيدة، لذلك يجب العناية بها ورعايتها بصورة تؤدي إلى اعادة بناء الثقة التي تقوضت عبر سنوات الحرب. يجب أن يعمل كل من المؤتمر الوطني والحركة الشعبية بقوة حتى يتم تطبيق كل نصوص الاتفاقية، وتؤدي كل المؤسسات القومية التي اوجدتها مهامها كاملة وبطريقة فاعلة. فالسودان يمر الآن بمرحلة حرجة، ويجب أن يستشعر قادته قبل كل الاخرين حجم العبء الملقي علي عاتقهم. إن الخيار الوحيد امام السودانيين هو تطبيق الاتفاقية بحذافيرها . غير ان نيابا يحمل المسؤولية كاملة للمؤتمر الوطني الذي بحسب نيابا يعامل شريكته الحركة الشعبية باهمال متعال، خاصة بعد الرحيل المأساوي لدكتور قرنق. وهو ما يجعل السودان معرضاً لخطر النزاعات والحروب الدائمة واحتمال التفكك . ومن الواضح أن تأزم الوضع بين الشريكين من وقت لاخر ليس مستغربا من قبل المراقب لمسار العلاقة بين الشريكين فاتفاقية السلام نفسها فرضتها ظروف معينة وكان المؤمل هو تجاوز حالة ما قبل الحرب الى بناء سلام حقيقي الا ان حربا صامتة وباردة ظلت هي السائدة في علاقة الشريكين ويبدو جليا ان كل من الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني غير مقتنع بما وقعا عليه من اتفاق الذي فرضه توازن القوى فالمؤتمر الوطني كان يؤمل في ابتلاع سريع للحركة الشعبية والمواصلة في مشروعه السياسي بنفس المنهج القديم قبل توقيع الاتفاق ويبدو جليا ان تقوقع الحركة وانكفاءها جنوبا وضعف كادرها شمالا وتبنيه لنفس اسلوب المؤتمر الوطني المراوغ والمساوم جهة تنفيذ بنود الاتفاق قد اسهم كثيرا في فرض المؤتمر الوطني لاسلوبه وكلمته فالحركة الشعبية تقف بعيدا معارك التحول الديمقراطي وتعديل القوانين لتتواءم مع الدستور ويبدو ان الحركة لا ترى في هذه المعارك معاركها ويبدو ذلك واضحا في تصريح ياسر عرمان الذي اشرنا اليه والذي بحسبه لن تلجأ الحركة الشعبية الى خوض معارك الفقر والتنمية والاعمار الا وفق مساومة مع المؤتمر الوطني على نحو ما حدث في حادثة سفينة الاسلحة الاوكرانية والتي يهدد ياسر عرمان في حالة طرحها امام البرلمان بطرح مسألة الانفاق على الامن من ميزانية الدولة !!