من محاسن الصدف أن تلتقي وزير الخارجية الهندي سلمان خورشيد مرتين في أقل من شهر، ولكن ستكون من الحسرات والخسارات المهنية الكبرى أن لم تجر معه حواراً صحافيا في المرتين. وبين نيودلهي منتصف يناير الماضي، حيث استقبلنا الوزير بمكتبه ضمن وفد صحفي من غرب آسيا وشمال أفريقيا، والخرطوم في الرابع من فبراير الجاري، حين جاء الوزير في زيارة وصفتها وسائل الإعلام ب(التاريخية والنادرة)، بينما وصفها هو ب(الاختراق الكبير)، جاء هذا الحوار. وفي العاصمتين كان سيف الوقت قاطعاً، حيث لم يمكنني من طرح كل التساؤلات، ولكن القليل الذي طرح على الوزير في المرتين جاءت الإجابات عليه واضحة وصريحة، بعيداً عن العبارات الدبلوماسية المغلفة والمكرورة، وهو ما يُعزِّز القناعة الراسخة عند الهنود والسودانيين على السواء، على المستويين الشعبي والرسمي، أن علاقات البلدين رغم بعد المسافة وحاجز اللغة أحياناً، ولكنها تكسب خصوصية تتعتَّق بمرور السنوات، وتمضي بثبات وهدوء نحو تبادل المنافع والخبرات في عالم برغماتي لم يعد يتكئ فقط على تاريخ العلاقات الراسخ، بل حاضر الاحترام المتبادل والمصالح المترابطة. الوزير خورشيد الذي جاء إلى الخرطوم قادماً من تونس والمغرب ضمن جولة في شمال أفريقيا أمضى يومين من المباحثات مع نظيره الدكتور علي كرتي، ومع وزير النفط مكاوي، واختتمها بلقاء رئيس الجمهورية الذي أكد له متانة العلاقات السودانية الهندية المتميزة في المجالات كافة، مشيراً إلى حرص بلاده على تطويرها وتقدمها. وأعرب الرئيس البشير عن تقديره لموقف الهند الداعم لقضية السودان في المحافل الدولية، وكذلك المشاريع التنموية والخدمية التي تنفذها بالسودان. في اليوم الأول للزيارة وبعد لقاء وزير الخارجية والتتويج بالدكتوراه الفخرية من جامعة الزعيم الأزهري، رتب لي السفير الهندي لدى الخرطوم سانجاي فيرما - مشكوراً - لقاءً سريعاً مع وزير الخارجية الهندى، حضرت إلى مقر إقامة السفير في الموعد المحدد، فطلب مني الانتظار لدقائق، وجدت الوزير خورشيد، الذي يمتاز بالطول الفارع، واقفاً في حديقة الدار محاطاً بأفراد الجالية الذين يتدافعون لأخذ الصور التذكارية وأحاديث التحية والمجاملة مع الوزير، تعرفت على اثنين من مرافقيه كنت التقيتهم في نيودلهي، فقالا لي إن الوزير لم يسترح منذ أن غادر تونس في طريقه إلى الخرطوم، وانخرط مباشرة في اللقاءات الرسمية، وعندما جلست إليه لم يعطني إحساساً بالرهق، بل كان مملوءً بالحيوية ومنفتحاً على الحوار، الذي جاء على عجل، لارتباطه بموعد على العشاء مع وزير النفط في ذات الليلة، فكانت هذه حصيلة لقاءين سريعين مع وزير خارجية الهند في نيودلهي والخرطوم: القيادة السودانية بعقل مفتوح وصبر تجاوزت ازماتها أولاً كيف تصف هذه الزيارة، أهي نادرة أم تاريخية أم عادية ولماذا؟ زيارة عادية وودية، وربما تأخرت لأسباب موضوعية، كانت للسودان مشاكل، ولكن القيادة السودانية بعقل مفتوح وصبر تجاوزتها، العمل في جنوب السودان من خلال اتفاق السلام والاستفتاء وفَّر قاعدة لحل كل المشاكل، السلام يجب أن يثبت، وهذا ما كان يشغل السودان في السنوات الماضية، والسلام يحتاج التنمية والاقتصاد، وبالتالي كان الاستثمار والتعاون في مجال النفط وإعادة البناء جزء من التعاون القائم بيننا، والسودان منحنا التنقيب في حقلين من النفط، وهذا جزء من عملية طولية. على المستوى السياسي كان التواصل مستمراً، ولكن تلك الأوقات كانت صعبة للظروف التي كان يمر بها السودان، وبالتالي أقول لك زيارتي الحالية اختراق كبير، والتوقيت مناسب للبلدين للانخراط في المزيد التواصل، فنحن في الحكومة الهندية في ختام عشر سنوات من حكومة المؤتمر الوطني، ونريد أن نمهد الأرض للخمس سنوات المقبلة، لا يهم الحكومة التي ستأتي للسنوات الخمس المقبلة، فنحن بلد ديمقراطي نسعى لإعادة ترتيب السياسة الخارجية للسنوات الخمس المقبلة، والسودان من أهم المحطات. نعم تاريخية، من حيث أن التوقيت مناسب للطرفين للانطلاق نحو آفاق أرحب في المجال الاقتصادي وتبادل المنافع، لأن علاقاتنا السياسية ظل على الدوام في أفضل حالاتها. كرتى صديق مرحاب ومتجاوب كيف وجدك نظيرك الأستاذ علي كرتي، وكيف كانت روح المفاوضات الثنائية؟ نعم هذا جيد، وجدته صديق مرحاب ومتجاوب ومتواصل جيد، ولديه أفكار ورغبة لعلاقات أفضل، خصوصا في المجال الاقتصادي، وهذا ليس بغريب، فالسودان داعم قوي للهند في المحافل الدولية، خصوصا في مسعى الهند لإصلاح مجلس الأمن الدولى، وكذلك السودان مهم للهند في مسألة الأمن الغذائي، وكما تعلم لدينا أفضل سجل تبادل تجاري يحقق فوائد كبيرة، وهو دافع للمزيد من التعاون، وتوصلنا لقناعة مشتركة أنه لابد من المضي قدما بعلاقاتنا التاريخية والتقليدية والثنائية المتيزة، ولابد من تنشيط الجانب السياسي والاقتصادي معا، الوزير بدا متحمساً للتعاون في المجالات كافة، وذكرني أنه من المهم أن تقدم الهند المساعدة في مجال الطاقة البديلة والطاقة الشمسية لضخ المياه الجوفية لاستخدامها في الزراعة، عموماً كانت روح التفاوض جيدة، وكنت سعيداً بلقاء وزير الخارجية. السؤال الذي سبق وأن طرحته عليك في نيودلهي الشهر الماضي حول ما إذا كانت الزيارة ستتطرق إلى أزمة جنوب السودان لايزال ساري المفعول؟ قطعاً نحن نتابع الأوضاع في جنوب السودان، والهند ترى ضرورة حل المشكلات داخلياً دون فرض حلول من الخارج، ونحن جاهزون لتقديم خبراتها وتجاربها لمساعدة الأطراف كافة لانتهاج الحوار السلمي، سنواصل انخراطنا في جنوب السودان، وأنا أشجع الشركات الهندية العاملة في الجنوب التي تضررت بسبب النزاع هناك أن تعاود نشاطها. برأيك، ما الذي يحتاجه البلدان لتعزيز الصداقة العميقة بين الشعبين؟ نحتاج إلى تكثيف علاقاتنا السياسية والاقتصادية والثقافية، وبناء القدرات من أجل مستقبل مشترك أفضل.. نهرا النيل والجانج إذا وضعا أيديهما فوق بعض واتحدا لن تقف أي قوة في العالم في وجهة تدفقهما الطبيعي وتطورهما. كل المجالات مفتوحة للتعاون الاقصادي بين البلدين كيف تنظر إلى مستوى العلاقات الاقتصادية والتبادل التجاري بين البلدين؟ أرى أنها تمضي باتجاه إيجابي، فخلال العام المنصرم استقبلت الهند عدداً من الوزراء السودانيين المعنيين بالملف الاقتصادي كوزير المالية والزراعة ووزير الدولة للنفط.. والتبادل التجاري بين البلدين يتوقع أن يصل بنهاية السنة المالية 2013 و2014 إلى مليار دولار بدلاً عن 888 مليون دولار في العام المالي الذي انتهى في 31 مارس 2013. لدينا استثمارات في قطاعات النفط والمعادن والزراعة وتصل إلى نحو 3 بلايين دولار، ويمكن أن نفعل المزيد خصوصاً في مجالات الزراعة والإنتاج الحيواني والآليات والصناعات الصغيرة والتمويل الأصغر والتوظيف الذاتي، كلها مجالات مفتوحة للتعاون الاقصادي بين البلدين. ألا ترى أنكم تركزون على الجانب الاقتصادي أكثر؟ ليس كذلك، كل ما في الأمر أن علاقاتنا السياسية جيدة، كما أسلفت، ونحتاج الآن لتعزيز علاقاتنا الاقتصادية، ولكن ليس بمعزل عن السياسية، كما في عصرنا الحالي أحياناً من الصعب جداً أن نفرق بين الاقتصاد والسياسة الخارجية. في بعض الأحيان يقود الاقتصاد السياسة الخارجية، وأحياناً تحرك السياسة الخارجية الاقتصاد، فالمهم أنه يتوفر لدى قيادات البلدين الرغبة والإرادة الحقيقة في تعزيز التواصل التاريخي بينهما. هل من توسع في مجال الاستثمارات النفطية؟ الجانب السوداني عرض علينا – مشكوراً - التقيب في مربعي ثمانية وتسعة للشركة الهندية للنفط، حيث يجري تقييمها، وهذا سيعزز استثماراتنا في هذا المجال، أنت تعلم أنه قبل انفصال دولة الجنوب كانت لدينا أكبر الاستثمارات النفطية، حيث وصلت قيمتها إلى نحو 2,3 مليار دولار. ما هي أولويات التعاون السوداني الهندي من خلال السياسة الخارجية لبلدكم؟ نحن أهم أولوياتنا تعزيز بناء القدرات في الموارد البشرية والبنيات التحتية والصناعة، وبالتي نحن الآن منخرطون في مشروعات للتعاون ذات صلة بهذه الأولويات، منها مركز للتدريب على اللغة الإنجليزية بالخرطوم ومركز للتدريب المهني في الدامر، وفيما يتعلق بالبنيات التحتية هناك مشروع ضخم في طور التنفيذ بمدينة كوستي، وهو محطة لتوليد الطاقة الكهربائية بطاقة تشغيلية تصل 500 ميغاواط، هذا بجانب عملنا في مصنع مشكور لإنتاج السكر بولاية النيل الأبيض. السودان مقبل على انتخابات في العام 2015، ما هو الدعم المتوقع من الهند التي كان لها شرف أن يكون رئيس أول لجنة انتخابية في تاريخ السودان هندي الجنسية هو القاضي سوكومارسن في العام 1953؟ نحن على استعداد لتقديم الدعم المطلوب سواء أكان لوجستياً أو بناء قدرات وتدريب أو مراقبة متى ما طُلب منا ذلك، ونحن جاهزون لذلك. متي يمكن أن ترى اجتماعات اللجنة الوزارية المشتركة النور؟ اللجنة الوزاية المشتركة ستنعقد هذا العام بعد الانتخابات الهندية أي في النصف الثاني من العام، والوقت بات مناسباً لانعقادها، خصوصاً بعد انعقاد المشاورات السياسية بين الطرفين في نوفمبر الماضي، التي أوصت بضرورة انعقاد اللجنة الوزراية، كما يشهد هذا العام انعقاد مجلس الأعمال المشترك الذي يجمع رجال الأعمال في البلدين. قبل أن تبدأ زيارتكم للخرطوم، كنت قد سألت سفيركم بالسودان عن توقعاته لهذه الزيارة، فقال هناك عناصر جديدة ستبرز وأخرى قديمة سيتم تعزيزها، ما هي العناصر الجديدة في هذه الزيارة؟ العناصر الجديدة أننا نشجع الجانب السوداني للمزيد من التعاون، خصوصا في مجالات الصناعة والزراعة بجانب النفط، ومجال السياحة عندما تأملت منظر شاطىء النيل برفقة وزير الخارجية قلت له شاطي النيل منظر جميل يحتاج إلى التنمية، وهو فعلاً موقع سياحي جاذب أتمنى أن تكون هناك استثمارات وتبادل الخبرات الهندية في مجال السياحة لتطوير قطاع السياحة في السودان. هذه كانت وصيتي للجالية الهندية بالسودان قبل أن نجلس إلى هذا الحوار كنت تتبادل الحديث، وتُلتقط لك الصور مع أفراد الجالية الهندية التي تبدو سعيدة بهذه الزيارة، ترى ماذا كانت وصيتك لهم؟ أولاً وجود الجالية الهندية بهذا العدد الكبير وبقدم السنوات التي حضروا فيها إلى السودان، ليس ظاهرة جديدة، وشكلوا جسراً مهماً بين السودان والهند، قلت لهم واظبوا وواصل صلاتكم ببلدكم الأم الهند، وبذات القدر مع السودان البلد استضافكم ووفَّر لكم سبل العيش الكريم. أنت متعدد المواهب – إن شئت- فأنت محامٍ وكاتب وممثل مسرحي وسياسي، كيف أثرت كل هذه في أدائك بصفتك وزير خارجية؟ أتمنى أن تساعدني – مع ابتسامة عريضة- في عملي، لكنني سعيد بكل ذلك، وسعادتي تضاعفت هنا في السودان عندما قامت جامعة الزعيم الأزهري بترجمة كتابي (أبناء بابر) إلى العربية، وهي بالمناسبة أول ترجمة إلى العربية، الكتاب الصادر بالإنجليزية ترجم من قبل إلى اللغة الأردية، وهي لغة محلية في الهند، ولكن هذه المرة الأولى التي يُترجم فيها إلى لغة عالمية، وقريباً ستصدر الترجمة الفرنسية، وكنت سعيداً بالنقد الذي قُدِّم للكتاب في جامعة الزعيم الأزهري. هذا يقودنا إلى السؤال عن التواصل الثقافي بين الهند والسودان، فأنت تحدثت عن علاقات سياسية متميزة واقتصادية متطورة، فماذا عن التواصل الثقافى؟ الهند لديها تاريخ طويل من التواصل مع بلدان شمال أفريقيا، وهناك تواصل ثقافي قديم كما أننا نتشارك قيماً تتجلى خلال العمل الثقافي مثل محاربة الهيمنة الاستعمارية ومحاربة الفقر والجوع، ومع السودان لدينا تواصل مستمر من خلال الطلاب الذين يأتون إلى الدراسة في الهند أنت تعلم أن عدد الطلاب السودانيين في الجامعات الهندية يفوق عددهم أي دولة في العالم، وهم سفراء لثقافتين، هما السودانية والهندية، أغلب الموظفين بوزارة الخارجية السودانية الذين التقيتهم خلال هذه الزيارة هم من خريجي الجامعات الهندية، وهؤلاء هم أفضل سبل للتواصل، ولو أن أي دولة العالم أنفقت الملايين من أجل الحصول على هذا المستوى من التواصل فلن تستطيع، ونحن نحصل على ذلك من خلال استضافة الطلاب السودانيين الذين يمكثون ما بين ثلاث إلى خمس سنوات في الهند، وبالتالي يكون ارتباطهم أعمق حتى بعد عودتهم إلى بلادهم. وكيف يتم تعزيز التبادل في مجال التعليم؟ نحن نقدم دعم للسودان في مجال التعليم والتدريب لبناء القدرات والكفاءات السودانية، وفعلا الرغبة والطلب المتزايد من الطلاب السودانيين للالتحاق بالجامعات الهندية يجعلنا نفكر في أن تكون هناك فروع للجامعات الهندية بالسودان، على غرار ما يحدث الآن في دول الخليج العربي، وأقر من خلال المداخلات اليوم للطلاب في جامعة الزعيم الازهري أن مستوى التعليم هناك عالٍ جداً، ونأمل أن تتم تلك الخطوة قريباً محمود الدنعو: صحيفة اليوم التالي