لا نعني بكلمة «السودان» انتماءاً عرقياً ، لأن هذا النوع من الانتماء قد اصبح خارج التاريخ، لكن«السودان» حالة اجتماعية ثقافية لها خصوصيتها. لقد عاش شعب السودان تجربة تاريخية في حيز جغرافي بين برزخي ثقافتين، (الافريقية الشفاهية، والعربية المدونة)، فتميزت الثقافة السودانية بخصائص تنسب إلى الأشكال الحضارية الناتجة عن تلاقح وتربية العربي والزنجي. إن هوية السودان هي خلاصة التمازج العرقي والثقافي،، خلاصة تلاقح الأفرقة والاستعراب. لذلك فإن تصنيف السودان كقطر عربي أو افريقي، تصنيف غير دقيق لاستحالة الفصل بين الوترين في الذات السودانية.. «ان قلت إن السودانى ينتمي إلى العرب فأنت صادق ، وإن قلت إنه ينتمي إلى الافارقة فأنت صادق، وإن قلت إنه سوداني فأنت اكثر صدقاً». ما هي الهوية إذن..؟ إنها باختصار، هي الانتماء إلى ثقافة أهل السودان والتجنُسْ وفق الشروط القانونية. تلك«الخصوصية» التي يتفرد بها شعب السودان، هي الحلقة المفقودة في السياسة السودانية و لا يمكن القفز إلى رباط اقليمي أو عالمي دون تثبيت أركان القومية السودانية أولاً. ويعتبر كتاب (الطبقات) أقدم مرجع يحتوي وصفاً واضحاً لتلك الخصوصية ، وهو المصدر الوحيد الذي يهتم بانتشار الثقافة العربية الاسلامية في السودان، والمرآة لحياة السودانيين الروحية والاجتماعية بل هو أقدم مرجع للحياة الاجتماعية السودانية. و في ذلك السفر تتمظهر الهيكلة الصوفية للشخصية السودانية. إن أرباب الفكر السلفي والماديين سواء في النظر إلى نصوص كتاب الطبقات،ولم يتفقوا على شيء كإتفاقهم على إدانة هذا المرجع التاريخي ووصفه بأنه سفر دجل وشعوذة وخرافة. ولا غرابة في هذا الموقف المشترك، لأن الذي يجمع بين الوهابية والماركسية كثير. مهما يكن، فإننا نكتشف الأبعاد المادية لأنماط النشاط الروحي عند تفكيك تلك النصوص،حتى نسبر غور «الأحوال» الصوفية التي تبدو للوهلة الأولى غير منطقية. من الأمثلة على ذلك قصص (الطيران في الهواء)، فهي تصوير للتطلع نحو الفكاك من أسر الزمان والمكان. و حالات خرق العادة، كوجود الولي الصوفي في أكثر من موقع جغرافي في اللحظة الواحدة، كما هي حال الشيخ «القدَّال»... مثل هذه الكرامة نُسِجتْ بلسان الشفاهة على منوال الخوارق الشائعة في عالم التصوف الإسلامي، و لها شبهاً في حالة الشيخ ابراهيم الدسوقي، الذي يقال إنه (صلي بالناس جمعة واحدة في خمسين قرية). على هذا، يمكن فهم وجود الشيخ عبد الرحمن بن جابر بمجلس الدرس في كل «مسايده» في الضحي، دون انكار لحالة خرق العادة،، فيمكن فهم ذلك على انه الحضور لقائد الرأي بفكره ، وسيرته التي تضوع بالتفرد على ألسنة الحيران،، فمن لا يصدق الحضور جسداً، لا يمكنه انكار الحضور الفكري والروحي للشيخ. وتجد في الطبقات قصة «جامع العرايا» في صحراء دنقلا العجوز، حيث يتوافد أقوام عراة للصلاة في مسجد بفلاة لا حياة فيها ،، ففي جوهر القصة تقديس للصحراء توارثته الأجيال عن عبدة «أبادماك» إله الحرب والصحراء، وفيها أيضاً اشارات ل «تشافه» الخيال الشعبي لفكرة التأليه تلك ، لتُصاغ في قالب الثقافة الجديدة المتسامحة، والمبرأة من تنطع الفقهاء الذين لا يقبلون فكرة أن يصلي المرء عارياً، أو إن الصلاة هي حالة تعري داخلي لاكتشاف الذات.. كما أن قصة جامع العرايا تنُص ببلاغة على أن الفلوات هي أصلح الأماكن للعبادة.. و«كل الصيد في جوف الفرا». أما الخوارق ، مثل « إحياء الموتى» على يد الشيخ حسن ود حسونة، ففيها أصداء نصوص الانجيل. و كرامات ، مثل « تحويل جريد النخل إلى فضة، والتحكم في المخلوقات في جوف النيل» ، وغيرها من الخوارق، فهي تدل على التفكير الرغبوي، ذي السند إلى أشكال التدين المتوارثة في طقوس السحر وكتب الحكمة القديمة . الخصوصية السودانية هنا، في أن تلك الأشكال الثقافية قد صيغت في البيئة، وتعتَّقت بها حتى بدا ردُها إلى اصولها نوعاً من الطمس لها..هذه الخصوصية هي جذر المواطنة، القائم على قبول الآخر.. وتلك هي الحلقة المفقودة في السلوك السياسي . صحيفة آخر لحظة