_3 البروفيسور عبد الفتاح عبد الله تطرقنا فى المقالين السابقين الى المصادر الطبيعية ( البكر منها والمستغلة) التى كرّم الله بها هذا البلد من أراض شاسعة و تنوع جغرافي و \" ايكولوجي\" ومياه بمواردها الثلاثة.. و للاستفادة من هذه النعم نادينا مرات ومرات الى وضع الوزارات والمؤسسات المعنية بالقطاع الزراعي والعاملين بها وفيها فى مكانها الطبيعي - ضمن وزارات السيادة- وقلنا لاسيادة لأمة تأكل من وراء الحدود (بأي شكل من الأشكال)..ونجمل ما طرحناه فى اقتراح محدد - ضرورة إنشاء مجلس وزراء مصغر للزراعة (من وزراء الزراعة , الثروة الحيوانية ,الري, البيئة , التنمية الريفية و(المالية) وبرئاسة الرئيس أو نائبه..تتحدث المدينة والإعلام كثيرا عن الخلافات وتبادل الاتهام بين الزراعة و الري - فى الجزيرة مثلا وآخرها تحميل( ولا نقول تنصل ) كل طرف الآخر الأسباب التى أدت إلى ضعف إنتاج القمح فى الموسم الحالي- هذا واقع يؤثر سلبا على الأداء ولايمكن السكوت عنه أو الالتفاف حوله إذ لابد من إيجاد المعادلات التى تحقق التنسيق والترابط بين كل الجهات ذات العلاقة.. وهو يعزز فكرة جمع الوزارات ذات الصلة وتحت أعلى سلطه فى البلد بالإضافة الى أن الله سبحانه وتعالى يوفق العمل الجماعي المترابط المنسق ليتم العزف على سيمفونية متناسقة موحدة تحت الإشراف المباشر من السلطة العليا فى البلد.. وكما هو معروف فإن فكرة المجلس المصغر معمول بها فى بلاد كثيرة لجمع الجهات المعنية بالأمرالحيوي والهام. نعم هناك أجسام تشرف على القطاعات المختلفة ولكن القطاع الزراعي يحتاج لجسم أعلى وصلاحيات أكبر.. \"خد عندك مثلا\" حين يحدث ارتفاع جنوني فى أسعار السكر ليصل سعر الجوال الى 140 جنيه فى العاصمة القومية بينما يستلم التاجر بمبلغ 115-118 جنيه من شركات التوزيع (بالمناسبة ما هى أهمية ودور هذه الشركات؟) كما جاء فى صحف الأحد الفائت فالأمر يحتاج لتدخل جهة عليا \"وخلونا من آلية السوق\".. ونواصل .. لقد ظللنا نسمع ونقول ونكرر القول فى كل المناسبات وعلى كل المستويات إن الزراعة هى ماكينة او قاطرة التنمية وهذه حقيقة ولكنا ما زلنا فى انتظار تحرك هذه الماكينة .. ... تقوم الزراعة على مثلث أضلاعه : البذرة , التربة والماء أما النهضة أو التنمية الزراعية فترتكز على مثلث أضلاعه: التعليم الزراعي والبحث العلمى – الإنتاج - ( الغيط والحقول بكل ما يجري فيها.. من الإرشاد الزراعي ونقل التقانة ) - التمويل... وبالطبع لايمكن الحديث عن أي إنجاز فى أي مجال فى غيابه ... تناول الأستاذ محمد ابراهيم كبج موضوع التمويل الزراعي فى هذه الصحيفة بإسهاب وقدم أفكارا واقتراحات و سنكتفي بها مالم نر أمرا يستوجب الإضافة أو التوضيح من وجهة نظرنا ( ونحن هنا نرمي للفت النظر الى أهمية التمويل من حيث المبدأ وهناك الجهات المعنية فى الدولة ( لم أقل الحكومة) للدراسة والتحليل والتقييم ومن ثم التفعيل ) ..فقط نأخذ الفقرة من مداخلات الأستاذ كبج التى تقول ( فى بداية الإنقاذ وعند إطلاق شعار نأكل مما نزرع اتخذ قرار بتوجيه 40 % من إجمالي التمويل نحو الزراعة , وكان مستوى الأداء ممتازا إذ وصل تمويل الزراعة فى بداية التسعينات إلى نسبة 36 % ولكنها ظلت أي النسبة تتدهور فأصبحت 16 % (2001) مع بداية دخول البترول فى الاقتصاد السوداني , ثم أقل من 11% (2004) و انخفضت بشكل مزعج إلى 6.7 % فى عام (2007) ونتمنى أن يعود الحال الى تلك الحقبة التى تعامل فيها المسؤولون مع الزراعة كما يجب.. ولكن من حقنا أن نسأل كل الذين تولوا أمر الاقتصاد والمال فى البلد : لماذا حدث هذا فى الأصل؟.. نستحضر بعض ما كان ينسب للدكتور حمدى ( و هو عراب الخصخصة والدعوة للحرية المطلقة فى الاقتصاد كما تقول المدينة) \" كأن ننصح مزارع السليم فى دنقلا بأن يبيع الفول فى الخارج – يعنى يصدر- ونبسط الحرية أكثر ب \" إن شاء الله تزرع شمار لمزارع الجزيره\" ... دون تأهيله أي المزارع فى السليم والجزيرة بالمستلزمات المطلوبة لممارسة هذه الحرية الاقتصادية و هى أفكار كان أصحابها ( سمث وكنز) يتحفظون ويترددون قبل إطلاقها ) ..كما أنه يقول فى لقائه الذى نعى فيه الصناعة السودانية ( إن الزراعيين هم أكبر فئة متعلمة فى السودان) ورغم ذلك يرى ضرورة جلب الخبرات من الخارج فى مجال الزراعة كما حدث فى حالة السكر( الصحافة 11 مايو الماضى) وأكاد أجزم بأن جلب المال هو الذى أثر إيجابا على إنتاج و صناعة السكر وليست الخبرات ( إذا كان الدكتور يعني بها الخبرات الفنية).. بهذه المناسبة أنا شخصيا لست من المتحمسين فى التوسع فى زراعة السكر فى السودان إلا فى مناطق جغرافية محددة، ولمقابلة الطلب المحلي لأن \"سكرنا\" لا يقوى على المنافسة فى السوق العالمي و لأسباب أوضحناها فى مناسبات سابقة وقد نعود إليها إذا يسر الباري ...وتتجه الدولة فى الآونة الأخيرة نحو التغيير الجذري فى سياسة التمويل حيث أنها بصدد الخروج وترك الأمر للبنك الزراعي والقطاع الخاص ليقوم بالدور الأكبر وعلى أسس تجارية كما جاء فى خطاب الأستاذ علي عثمان طه نائب الرئيس بمناسبة اليوبيل الذهبي للبنك الزراعي ونعتقد أن ابتعاد الحكومة من التمويل سيكون أكثر فائدة للزراعة ( وغيرها) إلا أننا نود أن نذكر بأن البنك الزراعي كان له دور رئيس فى الإنتاج الزراعي وذلك بمساهماته ليس فى التمويل فقط إنما فى الدعم الفني والإدارة كذلك وأرجو أن يعود البنك لأسلوبه السابق مع تمنياتنا بأن تستفيد إدارة البنك من شيوخ البنك الزراعي فخبرتهم ستكون إضافة إيجابية .. . ونبدأ بالضلع الأول : التعليم الزراعي ليس حسب الأهمية ( فمثلثنا متساو ي الأضلاع) وهو المدخل السليم للدخول فى أي برنامج .. لقد شهد العقدين الماضيين توسعا كبيرا فى التعليم وارتفع عدد الجامعات الحكومية والأهلية والخاصة وبالطبع قوبل ذلك بالتأييد من البعض والمعارضة من البعض الأخر وهذه هى سنة الحياة وفى كل الأحوال المطلوب أن نتعامل مع الواقع للوصول الى ما نصبو إليه والسعي لتحويل الواقع الى برامج مفيدة .. وبطبيعة موضوع هذه الحلقة فسوف نحصر أنفسنا على التعليم الزراعي ..حيث ارتفع عدد كليات الزراعة وبمسميات مختلفة وصل حوالي السبع وكما يقول أحد الرعيل الأول من الأساتذة فإن هذه المسميات والأسماء تحتاج للدراسة والتشريح والتقييم .. كذلك شمل التوسع تحويل المعاهد الزراعية الى كليات فانكمشت وتلاشت مساهمات المعاهد والمدارس الزراعية وبالتالي ضعفت العلاقة الرأسية والأفقية بين الكوادر العاملة فى القطاع الزراعى بصفة عامة ، الأستاذ ، الباحث الزراعى، والمهندسين الزراعيين حديثي التخرج والفنيين والعمال المهرة وغير المهرة حسب الأهداف التى نعمل لبلوغها, وهذه العلاقة لا غنى عنها فى التنمية الزراعية .. وأفرز هذا الوضع نتائج سلبية فى القطاع لخصها الدكتور مجذوب الخليفة عليه الرحمة عندما كان وزيرا للزراعة حين قال ( إن عدم الاستمرارية فى تأهيل الزراعيين بالتدريب خاصة الخارجي الذى له فوائد أخرى غير التأهيل الأكاديمي متزامنا مع توقف استيعاب الخريجين الجدد جعلنا نضطر الى استغلال أوقات كبار الأساتذة والزراعيين فى أعمال كان يمكن أن تقوم بها كوادر أقل خبرة).. إذن لا بد من إعادة النظر فى مسألة التعليم الزراعي من حيث إعداد و تأهيل البنيات التعليمية الزراعية وكذلك القبول فى كليات الزراعة فى اتجاه رفع نسبة النجاح المطلوبة للالتحاق بها مع التفكير لخلق التوازن بين الذكور والإناث (الله يستر من غضب دعاة المساواة، ولست ضدها إلا فى حالات خاصة) وبالمناسبة هذه النظرية معمول بها حتى فى بعض الدول المتقدمة حسب المعلومات المتداولة. إن ما نراه اليوم هو التوسع فى القبول بكل أنواعه لأن الجامعات مضطرة \"لضمور\" دور الدولة فى تمويل التعليم العالي, وترك الأمر للجامعات \" تدبر حالها\" وأقرب وأسهل الطرق المتاحة هو التوسع فى القبول وأصبح المال سيد الموقف وضعفت نظرية الكيف قبل الكم. والملاحظة الأخرى هى أن الكليات الجديدة أو فلنقل معظمها تكرار لزراعة جامعة الخرطوم والى حد ما الجزيرة (وهى كليات عريقة يحتذى بها).. وما نود قوله هو ألا تكون الكليات على نمط واحد فى بلد كالسودان يتميز بالتنوع البيئي والمناخ والتربة وأنماط الزراعة وثقافات المجتمع بالإضافة إلى أن معظمها فى المناطق المروية. وحتى فى المناطق المروية فقد توسعت الزراعة فى المناطق غير التقليدية ونظرة سريعة الى شمال ولاية الخرطوم, ولاية نهر النيل والشمالية نجد أن الزراعة بدأت تتوسع خارج المناطق التقليدية.. فى التروس العليا وفى أراضي كانت تعتبر ضمن المناطق الصحراوية .. والحقيقه أن هذه الاراضي تغطيها طبقات خفيفة من الرمال تكونت مع الزمن وبفعل المناخ و تراجع الغطاء النباتي ( ولكنها أراضٍ خصبة ومنتجة ). هذا التوسع فى المناطق غير التقليدية يتطلب خطوات استباقية من هيئة البحوث الزراعية والجامعات وإجراء برامج البحوث والدراسات اللازمة لضمان نجاح التنمية الزراعية فى تلك المناطق ولا تترك الأمر لاجتهادات المزارعين والأفراد لأن أخطر مهدد للأمة هو أن يصيب مزارعها الإحباط (بفشل الموسم الذى خُططت له مناسبات عديدة ..مصاريف المدرسة والجامعة وزواج البنت وأداء شعيرة الحج..الخ الخ.) ولابد لكليات الزراعة بانتشارها الواسع أن تساهم فى النهضة الزراعية فى الأقاليم المختلفة وعلى سبيل المثال يمكن لجامعة دنقلا, وادى النيل.... أن تساهم فى تطوير الإنتاج البستاني والقمح والبهارات والنباتات الطبية ( فى الولاية الشمالية بشكل خاص) والبقوليات وصناعة التقاوى حيث الشتاء البارد والأطول نسبيا..أما فى و لاية الخرطوم فيمكن أن تركز أم الجامعات- جامعة الخرطوم- وبوجود الخبرات الكبيرة فى المسائل القومية والتقانات الحيوية والاقتصاد الزراعي ولابد من خلق آلية تعنى بالتنسيق بين كليات الزراعة فى الخرطوم التى تحتضن خمس كليات حيث يلاحظ غياب التنسيق فى أبحاث الدراسات العليا بين الجامعات وحتى داخل الجامعة الواحدة.. ولا ضرورة للاسترسال ليشمل كل كليات الزراعة فى السودان فجغرافية وبيئة السودان معروفة ويمكن توجيه الاهتمام فى كل إقليم حسب الواقع هناك.. لا يمكن أن تكتمل الصورة دون أن نذكر ضرورة العمل والاهتمام بمناطق الزراعة المطرية فهي تشكل نسبة كبيرة من مساحة القطاع الزراعي ويعيش عليها حوالى 70 % من المواطنين وكذلك مشاكل الزحف الصحراوي - الذى أصبح يهدد الزراعة والاستقرار فى السودان حتى على الشريط النيلي- ..والإنتاج الحيواني فى الأقاليم الغربية .. أما الجامعات فى جنوب البلاد فيجب أن تكون رسالتها الأساسية تطوير الزراعة الاستوائية وشبه الاستوائية ( كالارز وقصب السكر) والإنتاج الحيواني والثروة السمكية بالإضافة لدورها فى إعداد وتخريج الكوادر المؤهلة لقيادة البرامج الإنمائية بشكل عام .. والمعلوم أن الولاياتالمتحدة هى الرائدة فى فلسفة التعليم الزراعي التى نتحدث عنها فقد كانت النهضة الزراعية الحقيقية والانطلاقة الكبرى بقيام الجامعات الولائية ذات البعد القومي فى القرن الثامن عشر.. معظم الاخوة الذين يقودون التعليم والبحث الزراعي فى السودان تخرجوا من تلك الجامعات وشبيهاتها فى أوربا .. صحيفة الحقيقة