د. نور الدين ساتي ولذلك فإن هذا الوضع المتفرد للسودان لا يتم الاعتراف به من قبل كل السودانيين خاصة بعض المُفكرين والسياسيين وقادة الرأي الذين يريدون أن يختزلوا تلك الأمة (قوس قزح) في عنصر واحد أو عرق واحد أو ثقافة واحدة أو دين واحد وقد أدّت هذه النظرة إلى التمييز بين السودانيين وإلى عزل وتهميش قطاعات كبيرة من الأقاليم والثقافات وإلى سيطرة ثقافات وسط السودان وشماله على مقاليد السلطة ما أدى إلى ظهور حركات احتجاج وتمرد في المناطق الطرفية أو ما أصبح يسمى مجازاً بالهوامش كرد فعل مُباشر لتلك السياسات ولإحساس تلك الجماعات والقطاعات بتهميشها الاجتماعي والاقتصادي وعدم مشاركتها بصورة كافية في أجهزة السلطة والحكم. وقد تنامى الوعي بهذه القضايا بتنامي العولمة وتصعيد الحملة العالمية من أجل الحقوق المدنية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والدعوة إلى وسائل وطرائق جديدة للتعامل مع قضايا الحاكمية، ومن أجل دعم وتعزيز قدرات منظمات المجتمع المدني، كما أن الأجهزة المرتبطة بالعولمة، والتي تم تبنيها واستبطانها من قبل منظمات المجتمع المدني في السودان سوف تسهم في تشكيل مسارات العمل السياسي والاجتماعي في السودان شئنا أم أبينا. والجديد في الأمر هو أن حركة الاحتجاج والتمرد التي تم احتواؤها في »الهوامش« على مدى حقب طويلة قد بدأت في النفاذ نحو مراكز السلطة في الخرطوم وفي الأقاليم الشمالية. وهذا ينم عن تغيرات جوهرية في طبيعة تلك الحركة ألا وهي أنها لم تعد مجرد تمرد ضد سلطة سلطوية في المركز وإنما هي حركة اجتماعية وسياسية بعيدة الغور وعميقة الدلائل، ستكون لها مترتبات بعيدة المدى على الطريقة التي سيحكم بها السودان في المستقبل. وتتطلب هذه الحركة رؤية طويلة الأمد تأخذ بعين الاعتبار كل مشكلات البلاد وذلك من أجل رسم خارطة طريق سياسية واجتماعية واقتصادية تأخذ بعين الاعتبار التحولات الاجتماعية والديموغرافية والسياسية التي تنتظم البلاد. هذا وقد عالجت اتّفاقية نيفاشا بعض هذه المسائل التي ترتبط بقسمة السلطة والثروة ولكنها فعلت ذلك بشكل جزئي، كما أن حقيقة أن تلك الاتّفاقية عالجت مشكلة الحرب في جنوب السودان دون سواه تترك بقية أجزاء البلاد خارج إطار الحل الشامل.. إلا أنه يجدر بنا أن نقول إن اتفاقية نيفاشا اتفاقية محورية ابتدعت حلولاً خلاقة للمشكلات بين شمال السودان وبين جنوبه وأدت إلى وقف إراقة الدماء بين شطري الوطن.. ويجب أن يتم تنفيذ الاتفاقية تنفيذاً كاملاً، إلا أنه في الوقت ذاته يجب أن تستمر المساعي من أجل إيجاد حل شامل لكل مشاكل البلاد. علماً بأن الحلول الجزئية تؤدي إلى تصعيد التنافس بين أجزاء الوطن المختلفة وداخل الطبقة السياسية من أجل الحصول على نصيب أكبر من موارد البلاد.. ويجب أن تعمل (خارطة الطريق) الجديدة من أجل الحكم في السودان على معالجة مسألة إعادة توزيع السلطة والثروة بين العاصمة- الخرطوم- والأقاليم المختلفة وهذا يشمل كذلك الأقاليم الشمالية والتي نجد أن بعضها أكثر تهميشاً من الشرق والغرب والجنوب.. كما يجب أن تعالج خارطة الطريق مسائل فلسفة الحكم ومناهجه ومؤسساته وأدواته والقائمين على أمره والحقوق والواجبات والحريات والتحول الديمقراطي والتوزيع العادل للثروة والحكم الفيدرالي وربما كذلك الحكم الكونفيدرالي، وتفويض السلطات الديمقراطية التمثيلية والأحزاب السياسية وحكم القانون والتربية الوطنية والعلاقات الخارجية وعلاقة الدين بالدولة.. ولا يخفى علينا أن جل هذه العناصر مضمنة في الدستور بشكل أو بآخر، إلا أن الدستور وثيقة يمكن أن تكون جامدة أو هامدة.. إذاً أنها تتضمن المبادئ العامة إلا أن (خارطة الطريق) تكون بمثابة المنهج العملي لتطبيق تلك المبادئ كما أنه سيكون لها وضعية تعاقدية فيما بين الطبقة السياسية وعامة الشعب. كما أن خارطة الطريق يجب أن تشتمل على جدول زمني لتنفيذها ووسائل وموارد التنفيذ المالية والفنية والبشرية. ويتم إجازة خارطة الطريق في مؤتمر جامع يتم تنظيمه فيما بين القوى السياسية المختلفة بإشراف لجنة يتم تشكيلها من الحزب الحاكم وكل الأحزاب السياسية الأخرى بالاضافة إلى بعض الشخصيات القومية المشهود لها بالحيدة والنزاهة والكفاءة. ثم ضاع الأمس مني: يحلو للسودانيين أن يحكوا حكايات عن الماضي الجميل والتعايش السلمي والانفتاح على الآخر الذي كان يمتاز به زعماء القبائل والعشائر في الزمن الماضي ومن أكثر القصص والنوادر تداولاً.. تلك التي كانت تدور بين دينق ماجوك زعيم دينكا نقوك بمنطقة أبيي وبين بابو نمر زعيم المسيرية اللذين كانا صديقين واستطاعا بحكمتهما وتجربتهما الحفاظ على العلاقات الطيبة بين القبيلتين حتى بوجود أوضاع من التنافس الحاد على الموارد بين القبيلتين حول الأرض، والماء، والمرعى، وأنه مما يؤسف له أن هذين النموذجين المثاليين لم يتم الاقتداء بهما في الفترة الحالية عندما تفجرت مشكلة أبيي حيث إن أبيي التي كانت تعد نموذجاً للتعايش السلمي بين الشمال والجنوب قد تمت إحالتها إلى التحكيم الدولي بدلاً من التوصل إلى حل مشكلتها بالوسائل السودانية التقليدية التي كان بابونمر ودينق ماجوك رمزاً لها.. وربما لو أن أهل ابيي مسيريه ودينكا تركوا وحدهم فلربما تمكنوا من التوصل إلى حل النزاع إذا إنهم يعرفون أكثر من غيرهم الكيفية التي يمكن أن يفعلوا بها ذلك.. ف (الجمرة بتحرق الواطيها) وكما يقول المثل الشعبي: أهل مكة أدرى بشعابها. فهم أول الخاسرين من استمرار النزاع وهم الذين يعانون حقيقة من تأزم الأوضاع أو استمرار العدائيات.. ليس هذا أمراً فريداً أو متفرداً ففي مثل هذه الأحوال عندما يجد الإنسان نفسه أو تجد جماعة نفسها في مواجهة ثنائية تتسم بالندية والخصوصية والمصالح المشتركة والتاريخ المشترك عبر مئات السنين، فإنها تكون قد بلورت من خلال التجارب والاختبارات التي اجتازتها وسائل معروفة ومتفق عليها لحلحلة النزاعات وهو ما كان يحدث في الماضي بين المسيرية والدينكا نقوك.. أما عندما يصير النزاع جزءاً من مشكلة أكبر وأعم فإن ذلك يؤدي إلى زوال الخصوصية في العلاقة الثنائية.. وتصبح مرجعيات النزاع ترتبط بعلاقات ومدلولات وثوابت تتجاوز الوضع المباشر بل وتتعداه إلى ما هو أوسع وأشمل، وتغيب الحقيقة وتصبح المماحكة السياسية والمغالطات النظرية التي لا تخدم القضية بل تزيدها تعقيداً على تعقيدها وتضيف إليها أبعاداً ليست من صميم المشكلة بل هي من صنع مواقف الرأي وعوامل أخرى وشخوص آخرين. التيار