تابعت- مثل الكثيرين- النزاع الدائر بين أولياء أمور مدرسة العمارات ومؤسسة النفيدي التي تريد بناء مستشفى على أرض المدرسة، وقد رفض سكان المنطقة، أو لنقل أغلبهم، بجانب مجموعات كبيرة من أولياء أمور طلاب المدرسة، فكرة هدم المدرسة لبناء المستشفى، حتى ولو كانت مشروعاً خيرياً. بالمقابل وقفت السلطات إلى جانب مؤسسة آل النفيدي ووافقت على فكرة الهدم، بحجة أن المؤسسة ستقيم مدرسة بديلة أفضل وأكبر. ولا أخفي تعاطفي مع أولياء الأمور الرافضين، وأجد في موقفهم هذا إشارات مبدئية تعلي من قيمة المكان ومساحته في الذاكرة الجمعية. ففي خلال العشرين عاما الماضية كان هناك إصرار شديد على استرخاص قيمة الأمكنة الأثرية والتاريخية وما تمثله للناس، لصالح حساب ما تساويه قطعة الأرض من مبالغ مالية، لذلك هدموا نادي الخريجين ونادي ناصر وحديقة الحيوان ومدرسة الخرطوم شرق ونصب الجندي المجهول...، وكأن المطلوب مسح الذاكرة السودانية كجزء من مشروع \"إعادة صياغة الإنسان السوداني\". ولا أعلم سبب إصرار آل النفيدي على الوقوف في وجه الريح ومعاكسة رغبات أهل المنطقة مهما كانت الحجج، وأي مشروع خيري هذا الذي يقام رغم أنف الناس، وأليس في أرض السودان الواسعة مساحة غير هذه المدرسة؟ لكن رغم هذا فقد وجدت في الجدال الدائر مواقف وإشارات غير موضوعية وضربات تحت الحزام، لا تتناسب مع الهدف المشروع لحملة معارضة هدم المدرسة، ولا تتماشى مع المواقف المبدئية، ومنها ما يمس أسرة النفيدي في ثروتها، ومنها ما جعل من صور منزل الأسرة مجالا للهجوم والتندر في بعض المواقع الإليكترونية. آل النفيدي لم يجيئوا كنبت شيطاني، ولم يصنعوا هذه الثروة بين يوم وليلة، وليسوا من الجماعة إياهم الذين اغتنوا بين ليلة وضحاها دون أن نعرف لهم نشاطاً واستثماراً. هذه أسرة عصامية مكافحة، بنى عميدها الراحل بشير النفيدي ماله وثروته من عمل معروف ومشروع بذل له أكثر من خمسين عاما من حياته، وعرف الرجل طوال حياته بجديته في العمل وبحرصه عليه وبذل كل وقته ، ليله ونهاره، في متابعة تفاصيله، حتى رويت الحكايات عن نفور البعض من العمل معه لعدم قدرتهم على مجاراته. هذه واحدة من أسر معروفة ساهمت في صناعة الاقتصاد الوطني من أبواب معروفة واستثمارات مشروعة، وقد تسيدوا ساحة صناعة النقل والترحيلات لعقود طويلة، وبنوا مالهم وثروة من سيارة لوري واحدة تجوب قفار السودان وبراريه حتى صارت لهم أساطيل من الناقلات الحديثة ثم شركات وتوكيلات تجارة واستثمارات متنوعة بفضل التفتح في سوق التجارة والبراعة في الاستثمار من جيل لجيل. وفوق ذلك فلوالدهم الراحل أيادٍ بيضاء وسيرة حسنة ويد ممدودة، وقد عرفت الراحل عمر النفيدي في بورتسودان والقاهرة، وهو مثل أبيه في سعة القلب وبسط اليد والبدء بالإحسان، ولا أريد هنا أن أنقص من حسناته بذكرها وتعدادها وهو بين يدي الرحمن، رحمه الله وأحسن إليه. فلنفصل بين حق مشروع لأهل وسكان العمارات في الإبقاء على المدرسة، وبين تمتع آل النفيدي بثروتهم وممتلكاتهم، فهذا موضوع خارج النقاش. الأخبار