تِسِكِع ْ وتِلِكِعْ * عبدالعزيز بركة ساكن جميعهم رجال. تهتف رائحة العرق المشوي بشمس الدَرَتْ الحارقة، شمس سبتمبر، تملأ الأنوف زنخاً لا يُحتمل. الجنقو يتشابهون في كل شئ، يقفزون في مشيهم كغربان هرمة ترقص حول فريستها، يلبسون قمصاناً جديدةً، ياقاتها تحفل بالأوساخ التي عمل العرق وعملت الشمس وريح السموم، التُربة الطينية السوداء على جعلها شاهداً على صراع مرير مع المكان والطقس، يفضلون الجينز ذي الجيوب الكبيرة والعلامات التجارية البارزة، المكتوبة بخطوط كبيرة مثل: كونز، وانت، ديوب، لي مان، ونستون وغيرها، لا يعرفون ماذا تعني، لكنها تعجبهم ويفضلونها على غيرها، ويدفعون لأجل الحصول عليها مالاً سخياً، يحيطون خصورهم بأحزمة الجلد الصناعي، فتبدو هيئاتهم كمخلوقات غريبة لا تنتمي للمكان، لكنها تقلد كل شئ فيه بالأخص كُلّيقَةْ السمسم المحزومة جيداً، أحذيتهم التي كانت جديدة، لامعة وأنيقة في أوآخر ديسمبر الماضي، الآن هي ذكرى تلك، مزق متسخة ذات أخرام وألوان يصعب تحديدها في الغالب، لا يهتم أحد بتهذيب شعر رأسه، فيما بعد حدثنا ود أمونة بأن عاناتهم كثة وأنهم يهملونها، يتركون شعر رأسهم الذي يميل للحمرة من فعل الشمس كثاً متشابكاً قصيراً أو طويلاً في مستعمرات للشرا. للجنقاوي أو الجنقو جوراى عدة اسماء على مر السنة وشهورها و فصولها: فهو كَاتَاكَوْ، في الفترة ما بين ديسمبر إلي مارس حيث يعمل في مزارع السكر بكنانة، ومصنع سُكر خشم القربة، عسلاية أو الجنيد. ويُسَمى فَحْامِي، في الفترة ما بين أبريل إلى مايو حيث يعمل أم بحتي؛ أي منظفاً للمشروعات الجديدة أو المهملة من الأشجار، ويصنع من سُوقها وفروعها الفحم النباتي. ويُسَمى جنقو أو جنقوجورا، في الفِترة ما بين يونيو وديسمبر، أي منذ هُطول الأمطار، إلى نهاية موسم حصاد السمسم. أما خلال السنة كلها فتطلق عليه النساء إسم فَدّادِي. وبالمقابل يُسَمِي هو النساء اللائي يصنعن المريسة والعرقي فداديات، وعرفنا أيضا من بعض الجنقو الذين أتوا من الفاشر و نيالا، أنّ اسم الجنقوجورا هو المستخدم عندهم، للدالة على ما نُسميه نحن في الشرق إختصارا جنقو، بالتالي لا يطلقون لفظ جنقاوي للمفرد كما نفعل، بل جنقوجوراى. هي ليست المرة الأولى التي نصطحب فيها بعضنا، أنا وهو، إلى مكان لا نعرفه ولن تكون الأخيرة، فمنذ أن طُردنا من وظائفنا للصالح العام، قبل خمس سنوات، تجولنا كثيراً في شتى بقاع السودان، شماله، جنوبه، غربه وشرقه، كان هو من أسرة ثرية، ويحتفظ بمال كثير لنفسه يمكنه من أن يتفرغ بقية حياته كلها للجري وراء متعة المشاهدة، كما أطلقنا على ما نقوم به من (تِسِكِع ْ وتِلِكِعْ) في بلاد الله الشاسعة. أنا فقير. لكني عازب ولا أتحمل مسؤولية أحدٍ غير نفسي، أخواني وأخواتي متزوجون، بعضهم خارج السودان، والبعض الآخر في الداخل، واتخذوا طريقهم المحتوم في الحياة، أمي وأبي متوفيان، هو يساعدني كثيراً في تحمل مصاريف السفر ومتعة المشاهدة، وأنا أوفر له الرفقة الطيبة، ويقول الناس عندنا: الرفيق قبل الطريق. دندن في صوت مرح رجال... رجال... نحن في حلم؟- قلت له . أنا شفت واحدة قبل شوية - يبدو أن الشاب العِشريني الذي يجلس قربنا، الوسيم، الذي يحتسي قهوته، لم يكن منشغلاً بموضوعات الحصاد، الربح والخسارة، العنتت و القبورالكعوك وطيور أم عويدات وود أبرق، كما هو الحال عند الجميع وبمن فيهم صاحب القهوة البدوي الشاب كث الشعر، أو بما تقدمه له رشفات القهوة من متعة تبدوعظيمة، كانت أذنيه تتصيدا ما نهمس به، ربما ما نفكر فيه أيضاً، قال لنا دون مقدمات، بحماس عالٍ ساذج.