دولة إفريقية تصدر "أحدث عملة في العالم"    والي الخرطوم يدشن استئناف البنك الزراعي    الناطق الرسمي بإسم القوات المسلحة السودانية: نحن في الشدة بأس يتجلى!    السودان: بريطانيا شريكةٌ في المسؤولية عن الفظائع التي ترتكبها المليشيا الإرهابية وراعيتها    أول حكم على ترامب في قضية "الممثلة الإباحية"    البطولة المختلطة للفئات السنية إعادة الحياة للملاعب الخضراء..الاتحاد أقدم على خطوة جريئة لإعادة النشاط للمواهب الواعدة    شاهد بالفيديو.. "معتوه" سوداني يتسبب في انقلاب ركشة (توك توك) في الشارع العام بطريقة غريبة    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تقدم فواصل من الرقص المثير مع الفنان عثمان بشة خلال حفل بالقاهرة    شاهد بالفيديو.. وسط رقصات الحاضرين وسخرية وغضب المتابعين.. نجم السوشيال ميديا رشدي الجلابي يغني داخل "كافيه" بالقاهرة وفتيات سودانيات يشعلن السجائر أثناء الحفل    شاهد بالصورة.. الفنانة مروة الدولية تعود لخطف الأضواء على السوشيال ميديا بلقطة رومانسية جديدة مع عريسها الضابط الشاب    بعد اتهام أطباء بوفاته.. تقرير طبي يفجر مفاجأة عن مارادونا    موظفة في "أمازون" تعثر على قطة في أحد الطرود    "غريم حميدتي".. هل يؤثر انحياز زعيم المحاميد للجيش على مسار حرب السودان؟    الحراك الطلابي الأمريكي    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    معمل (استاك) يبدأ عمله بولاية الخرطوم بمستشفيات ام درمان    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    انتدابات الهلال لون رمادي    المريخ يواصل تدريباته وتجدد إصابة كردمان    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    القلق سيد الموقف..قطر تكشف موقفها تجاه السودان    السودان..مساعد البرهان في غرف العمليات    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحاديث الأدب وقلة الأدب (3) ..كابوس منصور خالد في ليل أبي سن


غربا باتجاه الشرق
أحاديث الأدب وقلة الأدب (3)
كابوس منصور خالد في ليل أبي سن
مصطفى عبد العزيز البطل
[email protected]
(1)
مازال البعض يستعظم علينا، ونحن نواصل سلسلة الأدب وقلة الأدب، \"الخوض في سيرة الراحل علي أبو سن\"، تغشّته الرحمات. ونردُّ عليهم - بغير إبطاء - متسائلين: ومن خاض في سيرة أبي سن؟ لا شأن لنا بالرجل وسيرته الخاصة، وإنما نحن نتناول بعينٍ فاحصة وعقلٍ متمحّص كتابه الموسوم \"المجذوب والذكريات: أحاديث الأدب والسياسة\". وكنت قد كتبت في مقالٍ سابق: (أن الكتاب منشورٌ ومطروح في الأسواق بقاهرة المعز وعدد من المدن العربية، وأن غياب المؤلفين عن مسارح الحياة لا ينبغي أن يقف حائلاً دون عرض آثارهم مما أودعوه في كتبهم أمام موازين النقد. ولو كانت وفاة المؤلفين سبباً للامتناع عن تقويم الآثار المنشورة ونقدها لفسدت سماءُ العلم وافتقرت أرض الثقافة).
ثم أن بعض أحباب الراحل وحواريوه قاموا بخلق صورٍ ضوئية من صفحات الكتاب، ثم أسروا بها في ليل الأسافير \"تعميماً للفائدة\"! فكان ذلك أدعى الى أن ننهض بما فرضه الله علينا من واجب النصيحة، والإمام أحمد يقول: (إذا سكت العالم والجاهل يجهل فمتى يظهر الحق؟). ونحن لا نعدُّ أنفسنا في زمرة العلماء. حاشا لله أن نكون ممن لا يرحمون أنفسهم فلا يعرفون أقدارها. ولكننا نزعم أن بين جنبينا من البيّنات الرواسخ ما يخبط الضلالات التي حواها كتاب أبي سن فيمحقها محقاً، ومن حق أهلينا علينا أن نبسطها بين أيديهم، فيكون لنا عند الله أجر الصادعين بالحق، والمهطعين في دروب المكرمات.
وفضلاً عن ذلك فان ابن أخ صاحب الذكريات المسطورة المنشورة، السموأل أبوسن، تصدى لنا على رؤوس الأشهاد، وتحدانا في رابعة النهار أن ننشر ما عندنا إن كنا من الصادقين، واتّهمنا بالختل والمخادعة، وافترى علينا بساقط القول أننا لم نؤثر التوقف عن نشر ما عندنا إلا عندما أحاقت بنا الخيبة إذ كتب: (حاول البطل أن يجد نسقاً غيبياً ليبرر به خيبته وفشله.. مصوراً ذلك بأنه إرادة الله). قرأنا ذلك السفه فهاجت في دواخلنا كلمات عمرو بن كلثوم: (ألا لا يجهلنْ أحدٌ علينا/ فنجهلُ فوق جهل الجاهلينا). ولكننا نحمد خالقنا الحنّان المنان أن ملّكنا عنان أنفسنا، فلم نُسلم قيادنا لعصبيات الجاهلية. وإنما نلوذ بهدى الله، وهُدى الله هو الملاذ (ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى). ونحن، علم الله، لم نستجب لذلك التحدي منشرحين محبورين، ولم نعد لنقف بين يدى هذه السلسلة، بعد ان أوليناها ظهرنا، نعرض متاعنا ونفردُ قلاعنا. بل ولجنا الى ساحتها بصدرٍ مغموم وعقلٍ مهموم، فهي مهمةٌ يثقل علينا حملها، كما ثقل على السير ونستون تشيرشل حمل صليب اللورين، أعلى ما تمنحه فرنسا من أوسمة. قلده الجنرال ديجول ذلك الصليب فقال، للكُره الذي يُضمره للجنرال وتفاخره ببلده:
The cross of the Lorraine is the heaviest cross that I had ever carried
(إن وسام صليب اللورين هو أثقل وسام أحمله على صدري). وكأنّا به مثل يسوع المسيح يحمل صليبه في طريق الجلجثة.
(2)
ومن عجب أن أكبر ما أخذناه على المؤلف نفسه هو أنه لم يرعَ في كتابه حُرمة الموتى، فلم يستنكف أن يبشّع بالراحلين ويلطخ سيَرهم بالوحل، دون ذنبٍ جنوه سوى انه كانت لهم في الدنيا اختيارات غير اختياراته، ورؤىً غير رؤاه. بل إنه لم يتورع عن أن يتهم السيد الحسن بالسرقة، وهو الرجل الذي ما زال الآلاف من أهل السودان، وفي جمعهم آل بيت أبي سن العتيد، يحسبونه قديساً. وسخر من عملاق الاقتصاد السوداني، خليل عثمان، بعد عشر سنواتٍ من وفاته، فصوَّره في صورة الطرير الأهطل الذي لا يميز في عوالم السياسة والاقتصاد رأسه من رجليه. ومسح الأرض بالقائد اليساري الفذ والقانونى الضليع صاحب التاريخ الوطني الناصع، عابدين إسماعيل، بعد سنوات طوال من وفاته، وجعل منه فوق صفحات كتابه أضحوكةً ومهزأة، فأشاع عنه أنه بهلوان مهرج، وحاقد، وضعيف في اللغة الإنجليزية! وكتب عن صحافي متميز، من الآباء المؤسسين لصناعة الاعلام في السودان، بعد عشرين عاماً من رحيله عن دنيانا، أن سلطات دولة أجنبية ألقت القبض عليه وأودعته السجن بتهمةٍ مخلةٍ بالشرف. وذكر عن زوجة قيادي سياسي سوداني بارز، شغل منصباً دستورياً سيادياً، غادرنا الى دار البقاء قبل أعوام، أن الشرطة البريطانية ألقت القبض عليها متلبسةً بالسرقة في محلات ماركس اند سبنسر بلندن.
بل انَّ أبا سن لم يحفظ عُشرة زملائه ورفقاء دربه، الذين عمل معهم جنباً الى جنب في مسيرة حياته العملية، وأكل معهم الخبز والإدام في إناءٍ واحد، فلم يردعه رادع من أن يذكرهم وهم بين يدي ربهم بالسوء. من هؤلاء سفراء من أميز رموز الدبلوماسية السودانية، ومنهم مسؤولون في هيئات عربية عمل بها واكتاد رغيفه من خيرها. من بين زملائه ورفقاء دربه وكيل ووزير الخارجية الأسبق الراحل هاشم عثمان، الذي كتب عنه بعد عدة سنوات من وفاته انه كان رجلاً إمّعة، مدجّن، لا يهش ولا ينش، ولا يفكر ولا يتنفس إلا بأوامر من آخرين. وكتب عن زميليه السفيرين عيسى مصطفى سلامة وحامد محمد الأمين انهما قطيع من الأغنام منكسر، فاقد الهيبة، يقوده راعٍ سفيه. والقائمة تطول.
ولكن الأمانة تقتضي أن نسجّل هنا اننا، وبعد لأي، عثرنا على سفيرٍ سوداني واحد من زملاء المؤلف نال كلمة إشادة، بل أن المؤلف صرّح بأنه يحبه (كنت أحبه حقاً!!). وقد كتب عن هذا السفير انه جاء الى بيت المؤلف ذات يوم وهو يبكي والدموع تغرق عينيه ليطلب عفوه ومغفرته رجاء تخفيف ذنوبه. وادّعى المؤلف أن السفير النادم قال له: (أنا خضعت لمنصور خالد وعملت أشياء وسخة ضدك وأنت لا تعرف). ويبدو أن الندم لم يشفع للسفير كثيراً اذ لم يمنع أبو سن من أن يضيف في حق الرجل، الذي قال لنا إنه يحبه، إنه: (كان ضحيةً لبعض العُقد الشخصية الكامنة في نفسه والتي تمكن منصور من استغلالها). والذين يعرفون العوالم السفلية لوزارة الخارجية السودانية في تلك الحقبة يعرفون بالضرورة أن المؤلف يجهد هنا لتوظيف واستثمار بعض السفاهات العرقية والعنصرية التي كانت فاشية في ذلك العهد، ثم تعاظمت في زماننا هذا. وكان السفير المعني قد تُوفيَ قبل سنوات من نسبة هذه الأباطيل والمزاعم المبتذلة اليه ونشرها على لسانه في قراطيس أبي سن.
(3)
وترانا – أعزك الله – قد وصلنا أخيراً الى محطة الدكتور منصور خالد. وكنا قد ذكرنا لك من قبل أن التساؤلات دهمتنا بعد أن فرغنا من قراءة المذكرات: لماذا لم يُطلق المؤلف على كتابه \"المنصور والذكريات\"، بدلاً عن \"المجذوب والذكريات\"؟ إذ وجدنا انه حتى المجذوب نفسه وظّفه المؤلف وسخّره تسخيراً لتأمين خطوط امدادته في حربه المسعورة ضد منصور. وبينما يشتمل الكتاب على رسائل يفترض أن المجذوب أرسلها اليه ويطرق في بعضها سيرة منصور، إلا أن المؤلف مضى قدماً فأضاف على لسان المجذوب أقوالاً أخرى مرسلة، زعم أن المجذوب ذكرها له في جلساتٍ خاصة، ولكننا بطبيعة الحال لا نجد دليلاً قاطعاً على نسبتها للشاعر الكبير.
كتب أبو سن: (جلسنا، المجذوب وأنا، نناقش ونحلل هذه الظاهرة [ظاهرة منصور خالد].. وحددنا محاور ثلاثة للمناقشة هي: علاقة منصور بوزارة الخارجية، علاقة منصور بالأدب والشعر، وعلاقة منصور بالمرأة).
وقد انتهت مناقشات الصديقين، كما حررها أبوسن، في المحور الأول الى أن منصور وزيرٌ فاشل للخارجية، وأنه لا يصلح لشئ. أما محور الأدب والشعر فقد خلص البحث فيه الى نتيجةٍ مدهشة ومباغتة، لم تكن لتخطر لأحد ببال، وهي أن منصور ليس من الجعليين العمراب كما يزعم في سيرته الذاتية، بل انه ينحدر من قبيلة الفلاتة في غرب إفريقيا. ولكن الخلاصة الأكثر إدهاشاً وإثارةً للحيرة جاءت في نهاية مداولات الصديقين حول محور علاقة منصور بالمرأة، إذ قطع أبوسن وجزم أنه، وبرغم غرام منصور بالنساء وغرام النساء به، إلا أن منصور ليست له قصة حب حقيقية واحدة في حياته. وقد وقفت كثيراً عند خلاصة هذا المحور الأخير من محاور البحث، ونظرت فيه بجد، كوني أعلم أن المؤلف من أهل الذكر في مضمار النساء والحب، ثم تساءلت: كيف يمكن لأحد، مهما كانت ملكاته ومواهبه وقدراته، أن يقرر بهذه الدرجة من الثقة الباترة واليقين المطلق عن إنسان آخر أنه ليست له قصة حب واحدة؟ هكذا، ضربة لازب! كيف يتأتى له أن يشق خويصات قلوب الناس ويستعلمها، والحب من شُغل القلوب؟! وعندما استعقد الأمر واستعصت عليّ مغاليقه حدثتني نفسي أن هذه ربما كانت واحدة من فرائد مذكرات أبي سن التي أفادنا أبو الفوارس السموأل أنها كتبت لزمانٍ غير زماننا، وأن فهومنا تندُّ عنها، وأن الجدب والإدقاع الثقافي الذي ضربنا في عصر الإنقاذ يحول بيننا وبين استيعابها!
(4)
يقدم أبوسن في مذكراته تحليلاً نفسانياً لشخصية منصور، ونستفيد من تحليله أن منصور ينطوي على حقدٍ دفين على وزارة الخارجية ودبلوماسييها، وقد جاء لمنصب الوزارة وتولاها، بعد انقلاب مايو، وهو يستبطن الغل لأهل الدبلوماسية. ما هو مصدر الحقد والغل؟ المصدر عند صاحبنا هو عجز منصور واستخذاءه عن الجلوس لامتحان السلك الدبلوماسي. أي والله، هكذا! ويقرر صاحبنا بذات النهج الإطلاقي القطعي الباتر أن الالتحاق بوزارة الخارجية (كانت أمنية حياة منصور). وتحيّرنا مرة أخرى ملكات المؤلف النادرة وقدراته الخارقة في معرفة دواخل البشر وأخصّ خصائصهم. وأنا أعلم أن بعض العاملين بوزارة الخارجية، في زمانها القديم، كانت تعشش في أذهانهم أوهام كهذه، تسمعهم يرددونها عندما يقلبون ظهر المجن لرصفائهم من كادرات أجهزة الدولة الاخرى. ولكن لم يخطر بذهني قط أن أحداً، في تمام عقله، يمكن أن يراوده ذات الوهم بشأن رجل، مثل منصور، سيرته الذاتية كتابٌ مفتوح على قارعة الطريق. ونحن نعلم، كما يعلم غيرنا، أن منصور كان أول سوداني على الإطلاق يحصل على منحة فولبرايت بعد تخرجه في جامعة الخرطوم، وما أدراك ما منحة فولبرايت، ثم غادر على الفور الى الولايات المتحدة. وهناك حصل - وهو في عشرينات عمره - على وظيفةٍ مرموقة بالإدارة القانونية للسكرتارية العامة لهيئة الأمم المتحدة بنيويورك. وقد شغلها لبعض الوقت قبل أن يعرض عليه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي منصب نائب المندوب المقيم بالجزائر. وبعد فترة قصيرة في ذلك المنصب استقطبته هيئة اليونسكو بباريس، وهي المدينة التي حصل على درجة الدكتوراه من جامعتها، ولمّا يبلغ الثلاثين. هل تحدثك هذه السيرة الذاتية - أعزك الله - أن صاحبها يمكن أن تكون \"أمنية حياته\" أن يلتحق بأي وظيفة في وزارة الخارجية السودانية؟!
(5)
ثم أن علي أبوسن توسل الى هدم منصور وتشويه صورته بوسيلة، لا يلجأ اليها لاجئ إلا وهو موتور أصاب الشلل لبّه وأطاشت الموجدة صوابه، وهو أن يفصل الرجل فصلاً تعسفياً عن نسبه العربي، فينسبه بدلاً عن ذلك الى أصول إفريقية، يوحي المؤلف انها أصول خسيسة. ولا عبرة بعد ذلك أن يكتب من يستخدم مثل هذا السلاح الخبيث بين معقوفتين عبارات من شاكلة (مع احترامنا لقبيلة الفلاتة ودورها) كما يفعل السخفاء والمستكبرون. وفي مسعاه الماكر الى غرضه يدّعي أبوسن أن الشاعر محمد المهدي المجذوب فاجأه بالسؤال التالي: (هل سمعت منصور خالد ينشد الشعر أبداً؟)، فلما أجابه بالنفى واصل المجذوب: (هناك أمر يحيرني وهو المفارقة الهائلة بين كتابة منصور ولسانه. أقرؤه فأجده يستخدم أسلوباً فصيحاً، ثم أجده يستشهد بجيّد الشعر من المتنبئ وغيره، ولكنني حينما أجالسه لا أسمع منه كلاماً فصيحاً، لا شعراً ولا أدباً. وهو لا يجيد الخطابة، بل لا يستطيع، كما هو الطبيعي بالنسبة لمن يكتب بهذا الأسلوب الممعن في الفصاحة التحدث بالعربية الفصحى أمام المنتديات). وتتواصل المسرحية المصطنعة عندما يكتب أبوسن أن ملاحظات المجذوب تطابقت تماماً مع صورة منصور الأدبية واللغوية كما عرفها، وهي أن لسان منصور أغلف يفتقر الى الفصاحة العربية، فالفصاحة عربياً إنما هي في اللسان الناطق، لا في البيان المكتوب. ويخلص أبوسن الى انه (ليس هناك شريان عربي واحد يسري من رأس منصور الى لسانه).
وفي سعيه لتطوير المنطق أعلاه باتجاه الهدف الإستراتيجي وهو إثبات نسب منصور غير العربي، يزعم أبو سن انه والمجذوب معاً استأنفا البحث والتقصي حتى وقعا على شئ ملفت للنظر في سيرة الرجل نشرته إحدى الصحف في حوار مع منصور، ذكر فيه انه (ينحدر من أسرة يعتبر \"مختصر الخليل\" فيها من كتب الصغار). وهذه العبارة هي التي أضاءت الطريق لإثبات نسب منصور الحقيقي. حيث أفاد المجذوب - بحسب ادّعاء أبي سن - أن مختصر الخليل من الكتب المنتشرة في نيجيريا، وأن من يعنون بذلك الكتاب هم أهل غرب إفريقيا. هل وصلتك الرسالة، أعزك الله؟ ولكن الأمر لا ينتهي في هذه النقطة. بل ان الحوار يستمر بين الصديقين حول أصول منصور المفترضة، فيتناول المجذوب وأبي سن القبائل ذات الأصول النيجيرية ويسخران منها ويتخذانها هزوءاً، وهما يختتمان الفصل الاخير من فعاليات هذه الحفلة العنصرية التي تنضح قبحاً. إقرأه يكتب فى ختام المناقشة المفترضة: (أنا أعرف أغنية شهيرة تقول كلماتها: البرنو والفلاتة/ تدوسهم الكراكة/ كراكة نمرة تلاتة). وقد عرفنا الفلاتة، كما عرفنا السبب الذى أتى بهم الى أتون هذه الحرب العنصرية، ولكن ما ذنب البرنو حتى تدوسهم \"كراكة\" أبي سن؟! الغريب والمثير للحيرة أن أبا سن الذي يجاهر بإظهار الاحتقار للقبائل ذات الأصول الإفريقية، يملأ هو نفسه الدنيا تفاخراً - في أجزاء أخرى من مذكراته – لمجرد كونه شغل وظيفة \"مدير الإدارة الإفريقية\" في جامعة الدول العربية!
(6)
واستغلال اسم محمد المهدي المجذوب - بعد رحيله عن الدنيا - لإنفاذ رغبات المؤلف في التعبير عن حنقه على منصور لا يكاد يخطئه النظر في المثال الذي فصّلناه. بيد أن هناك معضلتين رئيسيتين تحفان بدعاية أبي سن المتقدمة. الأولى أن منصور شخصٌ حقيقي من لحم ودم يسعى بين الناس. وكثيرٌ من السودانيين، ومن بينهم كاتب هذه الكلمات، سمعوه وهو يتحدث في الإذاعات المسموعة والمرئية، وفي المحافل المحلية والعربية، وفي المنابر السياسية والندوات الثقافية، فهل لاحظ أحد أن لسان منصور أغلف، أو أنه لا يحسن الكلام بالعربية، أو أنه يعجز عن قراءة الشعر العربى بطلاقة كما يزعم أبو سن؟!
أما المعضلة الثانية فهي انه يصعب تماماً تصور ضلوع المجذوب في حملة التشكيك في أصل منصور والطعن في نسبه. وذلك لسبب هيّن للغاية، فالشاعر محمد المهدي مجذوب هو الابن الأكبر للشيخ مجذوب جلال الدين، صاحب ديوان \"السول في مدح الرسول\". وفي واحدة مما نشر في ذلك الديوان قصيدة رد بها الشيخ على قصيدة أخرى بعث بها اليه الشيخ عبد العزيز الدباغ محمد عبد الماجد، عم الدكتور منصور خالد أحمد عبد الماجد، تذكّر فيها صحاب الدباغ، ومنهم الشيخ قريب الله أب صالح. ويشير فيها الى أصل آل عبد الماجد كونهم وارثين للفضل والمحامد، ويقول في مقدمتها: (واصحب لأهل الله أين كانوا/ واهاً لهم قد بعدوا وبانوا/ فمنهم السالكُ والمجذوب/ ومنهم المُحب والمحبوبُ). ثم يرد في مدح الشيخ عبد العزيز، عم منصور خالد: (وإنني منذ جئت أم درمانا/ ولا أزال ولهاً لهفانا/ وقلت للزين أخي في الله/ من لي بعالم اوّاه/ من لي بصاحبٍ يفي بصحبتي/ \"والياً اذا ما ثنيت لا تثبت\"/ أهلاً بمن أسرع في البلاغ/ أخي المفدى رحبنا الدباغ/ ابن محمد عبد الماجد/ العالم الفذ الفقيه العابد/ قد ورثوا للفضل والمحامد/ من جدهم أبي الفخار حامد/ وهو الشهير في الأنام بالعصا/ وأنه أعده لمن عصا). أو لا ترى - أعزك الله - أن الأحق بالعصا هو الذي يتكذب على الموتى؟!
(7)
وافتئات أبي سن على اسم المجذوب بعد رحيله مما لا يحتاج الى بيان. وهو يفعل ذلك في بعض الأحيان بغير مسوّغ مفهوم سوى التماس الذرائع لطرق موضوعات معينة يعشق الاستفاضة فيها. فعندما أراد الحديث عن فرنسا وحياته الصاخبة وما استهواه في عوالمها، لم يتجه الى غايته مباشرةً، بل كتب ان المجذوب طلب منه أن يحدثه عن الفرق بين لندن وباريس. ويفترض هنا أن المجذوب يعرف لندن، فقد ورد في الكتاب انه زارها عدة مرات، ولكنه لا يعرف فرنسا على ظنٍ من أبي سن انه لم يرها. وقد فات على أبي سن، أو لعله لم يكن يدرى، أن المجذوب زار فرنسا فعلاً قبل ذلك التاريخ وشاهد عدداً من مدنها. بل ان المجذوب أقام ضيفاً في دار منصور خالد نفسه، في قلب باريس، إبان عمل الأخير في اليونسكو. وما أن عاد المجذوب الى الخرطوم حتى سطّر رسالةً مطولة بعث بها الى منصور. ومما جاء في رسالته تلك:
(انجُ سعد فقد هلك سعيد. وسعيد هذا تسمى به كل نبتةٍ عتية - مثلي - في المستنقع العربي. فإن كنت في باريس وحننت الى المستنقع فأنا إنسان أدمن الموت، وأنا أُعيذك - أيها العزيز - من مثل هذا الحنين القال. لقد جاء بنا الفتح العربي الى هذه الأرض الخبيثة، وتبع آباؤنا الأعراب أجمالهم الى السلم الشاحب في صحراء السودان فأضلهم السراب. والسراب السوداني - وقاك الله وحماك - من أبخرة المستنقع. \"الشمس تطلع في السودان كاذبةً/ وليس تُنبت غير اليأسِ والعدمِ/ آثارها الفجرُ فقّاعاً أكابدُه/ كأساً تجفُّ وقطراً طامساً يدمي\". لم تطل صحبتى لك في باريس في منزلك الأنيس، أنا لها أبد الدهر ذاكر. ولكن كنت مذهولاً مشتتاً أحاول أن أختزن لألاء النفوس والكنوس في قلبي الحزين. أبلغ سلامي الى كل من تراه، وحسبي هذا من حياة).
وقد جاء في تعليق لمنصور على رسالة المجذوب: (رحم الله الشاعر الشعبي محمد المهدي المجذوب فقد كان بلاغياً لا ينحبس عنده قول. وفصيحاً لا ينعجم عنده تعبير. انتحارياً في حبه لوطنه حتى أخذ يتحاشى عن الحياة عندما غلبه الأمر وأعياه. وكيف لا يعييه الأمر وقد صار شأن الوطن الى قومٍ مقحطين لا خلّ عندهم ولا ماء). {النخبة السودانية}.
(8)
وسنوافيك - أعزك الله - ضمن هذه السلسلة بمزيد من شاكلة ما قرأت. وفى خطتنا أن ندلف الى بعض المغارات التي قادنا اليها أبو سن وهو يخوض معركته ويدير صراعه مع منصور. وهو صراعٌ يزعم أن بعض الدبلوماسيين وصفوه بأنه \"صراع الأفيال\"، ولكنه صححهم قائلا: (بل هو صراع بين الإنسان وفيل الأحراش). ثم نريد بعد أن نخرج بك من تلك المغارات الى ضوء الشمس أن نعرض عليك ما عندنا في شأن الإنسان والفيل، ثم نأتيك بالخبر اليقين في أمر سيرة أبي سن السياسية، وسيرة علاقته بمنصور، وهى السيرة التي حمل صاحبنا قلمه وقام بإعادة صياغتها على الورق، فبدّل وقائعها تبديلا، وافترى فيها على التاريخ، وزوّر الحادثات بجرأة أدهشتنا وأدهشت كثيرين غيرنا، فصدَّقه السذَّج والبسطاء والواهمون من أدعياء المعارضة، والمتعبّطون في دورب السياسة بغير علمٍ ولا هُدىً ولا كتابٍ منير. ومن هؤلاء من دبّجوا المقالات في نصحنا، وحدَّثونا عن (سيرة نضال علي أبوسن الناصعة في مناطحة مايو والشموليين). وهؤلاء البؤساء لا يعلمون أن ابوسن كان من أنبياء الشمولية وأئمتها ومنظريها. كان رائداً من رواد الاتحاد الاشتراكي السوداني عهد صولته وعنفوانه، ومبشراً من مبشريه. ولا يدرون أن مئات المساهمات التي كتبها حول أنجع السبل لتعميق مفاهيم الاتحاد الاشتراكي وترسيخها في البيئة السودانية ما زالت محفوظة، لم ترثّ أوراقها بعد.
وستعرف مني كيف أن الصراع المزعوم بين أبي سن، كادر الاتحاد الاشتراكي فى أوج عهود الشمولية من سبعينيات القرن الماضي، والدكتور منصور خالد وزير الخارجية، إنما دار رحاه في الأصل والأساس حول قضيةٍ وحيدة، وهي أن وزارة الخارجية - بزعم أبي سن - تنكّبت الطريق فأخفقت في التعبير عن أهداف \"ثورة مايو\"، والالتزام بمقررات المؤتمر القومي للاتحاد الاشتراكي. وما زال أناسٌ كُثْر في عنفوان العقل وفتوة الجسد، يمشون بين ظهرانينا غداة يومنا هذا، تترامى إلى آذانهم من تحت طيات الأزمنة أصداء صوت أبي سن المتميز تجلجل داخل مؤتمرات الاتحاد الاشتراكي عبر مكبرات الصوت.
موعدنا الأربعاء اذن، وصبحُ الأربعاء قريب.
[ نواصل].
صحيفة \"الاحداث\"


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.