** درجة الحرارة ، كما توقعت نشرة إرصاد البارحة دون الأربعين بقليل ، ولكن ذات الحرارة درجتها فوق الأسفلت قاب قوسين أو أدنى من الخمسين .. عند تقاطع المك نمر مع السيد عبد الرحمن ، إشارة المرور حمراء ، بدأت عدها التنازلي نحو الصفراء ثم الخضراء بتسع وتسعين ثانية .. تلك الثواني وطأتها ثقيلة على صبر سائقي المركبات ، بحيث هم دائما على عجالة من أمرهم ، ولذلك تزعجهم الإشارة الحمراء ، حتى ولو كانت ذات عد تنازلي يبدأ بالثلاثين ثانية..!! ** نعم ، يزعجهم أمر التوقف ، وكذلك أي أمر آخر .. فالناس في بلدي لايحبون الأوامر ، أيا كان مصدرها وأسبابها وأهدافها ، وأمر التوقف عند الإشارة الحمراء جزء من الكل غير المحبوب .. شعب يعشق العيش بطريقته الخاصة ، على سجيته ، كما يهوى ، بلاقيود ، بلا أوامر ، بلا رقيب ، حرا كما ولدته أمه .. ولذلك عجزت صفوف المنافذ في بلدي عن الانتظام .. تأمل روعة صفوفنا عند منافذ استخراج الأوراق الثبوتية بمباني الداخلية ، منافذ فحص أوراق الدخول والخروج بمطار الخرطوم ، منافذ بيع سكر كنانة ، منافذ بيع تذاكر مباراة هلال مريخ ، وغيرها.. صفوف رائعة ، كما أمواج البحر حين تغضبها ماكينات سفينة عابرة ، بين كل صف وصف ، معركة صفين ..لاينتظمون ، ليس حبا في الفوضى ، ولكن رفضا لأمر التنظيم ..!! ** و.. نرجع لتقاطع المك مع السيد ، ألقاب مزعجة ولكن لاغبار عليها حين ترد في سياق وصف حال عند تقاطع طريقين .. حال سائق ينتظر الضوء الأخضر ليمر وحال صبي - تسرب من مراحل التعليم - يتمنى ألا يكتمل العد التنازلي للإشارة الحمراء ، كل ثانية من ذاك العد التنازلي هي بمثابة : لحظة أمل .. تبقت ستين ثانية والصبي لم يبع منديلا.. درجة الحرارة تستدعي بأن يقتني المرء منديلا يمسح به عرقه ، ولذلك جاء الصبي بالبضاعة المناسبة في المكان المناسب .. يعرضها الصبي لسائق العربة كامري .. درجة الحرارة فوق الأسفلت - حيث يقف الصبي - تختلف عن درجة الحرارة داخل العربة كامري، حيث السائق المستهدف بالمنديل.. الصبي كان يجهل - أويتجاهل - فرق الدرجات عندما طرق زجاج الكاميري برفق ، راجيا من السائق شراء منديل ، ولهذا لم يكتمل البيع ..لم يختلفا في السعر ، فالزجاج العازل بينهما يعكس بأن السائق يرفض حتى مبدأ التفاوض في السعر .. ربما اختلاف درجة الحرارة - ما بين سطح الأسفلت وجوف الكامري - حال دون إكمال ( صفقة المنديل ) .. وكان العد التنازلي للإشارة الحمراء قد بلغ الأربعين .. والصبي لم يبع منديلا ..!! ** غادر تلك ، إلى حيث التي تقف وراءها ، عربة تاكسي .. وقبل أن يمد الصبي منديله ، رفع السائق علبة منديل لم تكن على الطبلون ، بمعنى : شكرا ، عندي منديل .. والصبيان حين يهرولون - بمناديلهم - على الأسفلت الساخن ، لايستهدفون سائقي السيارات التي على طبلونها علب المناديل ، بحيث يظنون بأن حاجة السائق إلى مناديلهم - فقط - هي التي ترغمه على الشراء وليست حاجتهم إلى جنيهات تسد رمقهم .. ولذلك تجاهل الصبي سائق العربة كوريلا التي كانت تقف بيميني ، تجاهله - كما سائق التاكسي - بعد أن ألقى نظرة يائسة على علبة مناديله المحشوة ، بمظان أنه ليس بحاجة إلى المزيد.. ولكن سائق الكوريلا لم يستجب لتجاهل الصبي ، ناداه واشترى منه علبتين ورفض استلام باقي المبلغ ، مشيرا إلى ناحيتي : إدي الزول داك علبتين وكدا حبايب .. فابتسمنا لبعض ، وابتسم الصبي .. وكاد العد التنازلي للإشارة الحمراء يكتمل ..فليكتمل ، لقد تعلم الصبي - في ثوانيه الأخيرة - بأن مناديله ليست لمسح عرق سائقي المركبات فقط ، بل لمسح عرقه أيضا..!! صحيفة الحقيقة