لم يقنعني تبرير مراسل العربية أسباب إرتدائه الكدمول    نشطاء قحت والعملاء شذاذ الافاق باعوا دماء وارواح واعراض اهل السودان مقابل الدرهم والدولار    ريال مدريد لنصف نهائي الأبطال على حساب مانشستر سيتي بركلات الترجيح    ركلات الترجيح تحمل ريال مدريد لنصف نهائي الأبطال على حساب السيتي    وزير الخارجية السوداني الجديد حسين عوض.. السفير الذي لم تقبله لندن!    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    سيكافا بطولة المستضعفين؟؟؟    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    شاهد بالفيديو.. بعد فترة من الغياب.. الراقصة آية أفرو تعود لإشعال مواقع التواصل الاجتماعي بوصلة رقص مثيرة على أنغام (بت قطعة من سكر)    مصر.. فرض شروط جديدة على الفنادق السياحية    الحركة الإسلامية السودانية ترد على كندا    شاهد بالصورة والفيديو.. ببنطلون ممزق وفاضح أظهر مفاتنها.. حسناء سودانية تستعرض جمالها وتقدم فواصل من الرقص المثير على أنغام أغنية الفنانة إيمان الشريف    ماذا كشفت صور حطام صواريخ في الهجوم الإيراني على إسرائيل؟    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    العليقي وماادراك ماالعليقي!!؟؟    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    مقتل 33899 فلسطينيا في الهجوم الإسرائيلي منذ أكتوبر    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    محمد بن زايد وولي عهد السعودية يبحثان هاتفياً التطورات في المنطقة    ترتيبات لعقد مؤتمر تأهيل وإعادة إعمار الصناعات السودانية    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    شاهد بالصورة والفيديو.. فتاة تنضم لقوات الدعم السريع وتتوسط الجنود بالمناقل وتوجه رسالة لقائدها "قجة" والجمهور يسخر: (شكلها البورة قامت بيك)    شاهد بالصورة والفيديو.. بأزياء فاضحة.. الفنانة عشة الجبل تظهر في مقطع وهي تغني داخل غرفتها: (ما بتجي مني شينة)    رباعية نارية .. باريس سان جيرمان يقصي برشلونة    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    حمدوك يشكر الرئيس الفرنسي على دعمه المتواصل لتطلعات الشعب السوداني    محمد وداعة يكتب: حرب الجنجويد .. ضد الدولة السودانية (2)    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    رسالة من إسرائيل لدول المنطقة.. مضمونها "خطر الحرب"    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    قصة مانيس وحمدوك وما ادراك ما مانيس وتاريخ مانيس    تنسيقية كيانات شرق السودان تضع طلبا في بريد الحكومة    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المجالس بأماناتها والرسائل بخياناتها


غربا باتجاه الشرق
أحاديث الادب وقلة الادب (5)
المجالس بأماناتها والرسائل بخياناتها
مصطفى عبد العزيز البطل
[email protected]
الله يا شيخ الصعاليك اليتامى
ويا مسكاً يضوع الآن خلف الموت
أسراراً، وأذكاراً، وأشجارا
ورؤيا آسرة
الله يا شيخ القضايا الخاسرة
(من قصيدة \" قبر على موج الدميرة\" للشاعر كمال الجزولى، فى رثاء الراحل محمد المهدى مجذوب)
(1)
لا تراودنا ذرة شك فى أن قيام أبى سن بنشر الرسائل الخاصة لشاعرنا الكبير محمد المهدى المجذوب بعد وفاته تمثل معلماً فارقاً فى سيرة الفجيعة الاخلاقية التى ألحقها بمضمار كتابة المذكرات فى السودان. يضاف الى ذلك الروايات المرسلة ذات المضامين المستقبحة الحاطة من أقدار الناس، التى لم ترد فى الرسائل والمكاتبات ولكن صاحب المذكرات صاغها من عنده ثم وضعها على لسان المجذوب، مدعياً ان المجذوب ذكرها له فى لقاءات خاصة جمعتهما. ولا عبرة هنا بما كتبه خلصاء صاحب المذكرات من الذين احتفوا بهذه الرسائل، وعدوا نشرها فتحاً أدبياً، ونعتوا المنددين بنهج اذاعة اسرار الأصدقاء الشخصية، بعد رحيلهم عن دنيانا، بأنهم يرتهنون الى قيمٍ مهترئة ومُثُلٍ بالية تجاوزها الزمان.
أى فتح أدبى هذا الذى يُفضح فيه، وتبذل للغاشين والماشين، أخص وادق أسرار رجل محصن يكتب الى امرأة اجنبية يحدثها بمثل ما حدثت الرسائل الفتاة روزمارى؟ (يناديها بعض من طرقوا هذه القضية ب \"الشاعرة روزمارى\". ليست هى بشاعرة ولا يحزنون، وانما صبية التقطها ابوسن من طرقات لندن). وهى رسائل يفترض أن المجذوب كتبها وبعث بها الى فتاة يافعة تنهد للخروج من سن المراهقة. وبحسب رجاء النقاش، الذى استقى معلوماته من ابى سن، فان شاعرنا كتبها وهو فى سن الخامسة والاربعين وما بعدها، بينما كانت الفتاة روزمارى فى التاسعة عشر وفقاً لأغلب الروايات (يقول النقاش انها كانت فى العشرين، لا التاسعة عشر. لا فرق). وتشتمل الرسائل الى الفتاة روزمارى على جوانب قد ترد فى مواددات حميمة بين رجل وامرأة، ولكنها بالقطع واليقين، وبكل المعايير، لا تصلح للنشر. واكاد اجزم، بغير كثير حذر، ان المجذوب لو كان حياً وقرأ بعض عبارات تلك الرسائل منشورة ومنسوبة اليه لسقط مغشيا عليه من فوره. والمجذوب نبات لبيئة سودانية أصيلة تتجذر فيها القيم الرفيعة، ويقوم \"الانفلات\" فيها مقام الاستثناء الذى يثبت الاحكام والقواعد ويعضدها. ونود ان نبسط امامك فى يومنا هذا- اعزك الله - بعض المآخذ التى اخذناها على صنيع صاحب المذكرات باذاعة رسائل المجذوب الخاصة على الملأ.
(2)
فى مذكراته الموسومة (فى بلاط الدبلوماسية والسلطة)، أورد وزير الرئاسة والسفير السابق الاستاذ ابوبكر عثمان محمد صالح، رواية عن واحد من متصوفة الحركة الاتحادية فى مرحلة الاستقلال، هو الراحل الوزير محمد نورالدين. وجوهر الرواية هى ان الرجل مرت به ظروف مالية قاسية ابان وجوده بمصر، وعندما علم بذلك الراحل الشريف حسين الهندى، الذى صادف مروره بالقاهرة، بادر بدفع ديون الرجل بكاملها دون علمه. ولكنه اشترط على ابى بكر ان يُبقي الامر سراً والا يخبر نورالدين بأنه هو الذى سدد عنه ديونه. وقد تُوفي الوزير نورالدين وهو يظن ان المقرض هو ابوبكر، ووجد ابناؤه بين اوراقه عند الوفاة توثيقاً لذلك المبلغ واشارة الى انها دين مستحق لابى بكر. وبعد ان وردت هذه الرواية تلاها مباشرة توضيح من كاتب المذكرات جاء فيه انه لم يضمّن كتابه هذه المعلومات الا بعد ان استأذن اسرة المرحوم محمد نورالدين، وحصل على موافقة ابنه الاكبر الاستاذ صلاح محمد نورالدين (راجع سلسلة مقالاتنا بعنوان: ابوبكر عثمان فى بلاط الدبلوماسية والسلطة). تلك اذن هى اصول التعرض لسير الناس وخصوصياتهم ومعالجتها فى الكتابات المبذولة، وابوبكر يفهم، بغير شك، تلك الاصول ولا يعدوها، ومثله كثير.
ومن الاعراف المستقرة فى السلوك العام ان الاسرار التى تنتهى عند طرفٍ من الاطراف عن طريق المشافهة او المكاتبة لا تبذل للاغيار بغير اذن اهلها. ومأخذنا الأساسى على ابى سن هو انه بادر الى استباحة أسرار الشاعر المجذوب، بعد وفاته دون اذن من اسرته، وهى معلومة استوثقنا منها. اسرة الشاعر الكبير لم تطلع على اصول هذه الرسائل المزعومة، ولم تقرر انها مخطوطةٌ بخط يده، ولم تأذن بنشرها. وليس بأيدينا والحال كذلك، ولا بيد غيرنا، ما يقطع بأن هذه الرسائل قد كتبها المجذوب فعلاً، وذلك باستثناء افادات ابى سن نفسه بطبيعة الحال. ولا بد انك - اعزك الله- تعرف جيداً مدى مصداقية افادات الرجل، لا سيما وانك طالعت الحلقة الرابعة من هذه السلسلة!
وكان ابوسن قد نشر من قبل رسائل الشيخ حسن الترابى الخاصة، التى زعم ان الشيخ بعث بها اليه على عهد الشباب، دون اذن منه أيضاً، مما احنق عليه الشيخ، فقام - محقاً- باستخدام سلطات النيابة العمومية التى كان يتمتع بها لحظر الكتاب. وفى حالة الشيخ الترابى فان أبا سن لم ينشر رسائله الخاصة على انها \"فتح أدبى\"، وانما نشرها فى اطار مكايدات سياسية بحتة. والاحتفاظ بالرسائل الحميمية التى كتبها الاصدقاء فى عهود الصفاء، ثم استخدامها فى زمانٍ لاحق كسلاحٍ لتصفية الخصومات بنشرها واذاعتها على الناس اجمعين بغرض إضعاف الخصوم السياسيين وأيذاء مشاعرهم، بعد ان تتفرق بهم شعاب الدنيا، مسلكٌ مستقذرٌ مستفجَر، تمجّه الفطرة السليمة ويأباه الضمير الحر.
الحقوق العرفية والقانونية فى أمر خصوصيات الناس مؤصّلة ومؤثلة، لا يتعداها الا متعدٍ مجانفٍ للنصفة. ونحن - ولله الحمد والمنة - لا نقف موقفنا هذا فرادى معزولين، بل هو موقف نجد انفسنا فيه على ذات الضفة مع عدد من لوامع المثقفين السودانيين، فى مقدمتهم شيخنا الدكتور عبد الله حمدنا الله، والدكتورة لمياء شمت، والدكتور مبارك بشير وغيرهم ممن كتبوا، عند اول ظهور المذكرات ودخولها حيز التداول، منددين بشرعة العدوان ونهج الافتئات على الحقوق. وقد وجدنا انفسنا على ذات الضفة ايضاً مع المثقف الشفيف صاحب الحرف الوضئ، المهندس عبدالله الشقلينى، الذى كتب فى منبر \"سودان راى\" الالكترونى:(من حق أبوسن أن يكتب وان يأخذ الاذن بالكتابة وفق الاسس المتعارف عليها قبل النشر. ومن حق البطل ان يتناول تفصيلات ما ورد فى كتاب ابوسن. ومن حق الأسر الممتدة ان تستوثق مما ورد حقاً مأذوناً من صاحب الشأن. ومن حق الاحفاد الا تتجول حيوات اهليهم الخاصة فى الفضاء بدون التوثيق الذى عنيناه، وبدون الاذن). ويضيف الاستاذ الشقلينى:(الموضوع ذو صلة بطرق كتابة المذكرات. وقد تحدثنا عن المنسوب للآخرين وضرورة أخذ موافقتهم قبل النشر. أما مذكرات كاتبها فهو أمرٌ يهمه. ومن هنا فان المدخل هو حق النسخ. وهو يطرح مصداقية هذه المذكرات ان كانت غير موثقة. هناك نظم لكتابة المذكرات، فالامر ليس بعمل هواة. واعتقد ان الامر يستحق النقاش. ليس من باب الاخلاق كما يصر البعض، ولكن من باب حق النقل عن الآخرين دون تصريح).
وفى ذات الموقع كتب العالم الفذ البروفيسور بدرالدين حامد الهاشمى: ( قرأت قبل سنوات مذكرات الشيخ بابكر بدرى، التى وُصفت بأنها المذكرات السودانية الوحيدة التى تتميز بالصدق الكامل. وقرأت كذلك مذكرات محمد خير البدوى، وهى ايضا صريحة جدا. الفرق بين تلك المذكرات وما سطره المرحوم ابوسن هو ان بابكر بدرى ومحمد خير البدوى كانوا صرحاء جداً فيما يخصهما فقط. أى انهما لم يذكرا ما قد يمس الآخرين. لم يعجبنى البتة نشر ابوسن لمكاتبات خاصة لصديق لا نعلم ان كان قد سمح بنشرها ام لا. هذا يمثل مشكلاً اخلاقيا. لا اعتقد انه يجوز ان تنشر مراسلات كتبها صديق فى زمن سابق دون علمه وموافقته. هذه فى نظرى من بدهيات اخلاقيات الكتابة. فى مجال النشر العلمى، على سبيل المثال، لا استطيع قانوناً ان أنشر مقالا علمياً كتبته مع آخرين حتى ارسل للناشر موافقات خطية من هؤلاء الآخرين المشاركين فى كتابة المقال).
(3)
ثم انه جاء فى الأثر أن \"المجالس بأماناتها\". واذا لزم حفظ الامانات فى حال المجالس المحضورة، والا ما سميت \"مجالس\"، فالأوْلى ان تكون \"الرسائل بأماناتها\" أيضاً. فالرسالة تحوى سر رجل واحد او امرأة واحدة الى رفيق او رفيقة. والحديث الذى اقتصر على متراسلين اثنين أدعى وأحق بالحفاظ على حرمته من حديث ذاع فى مجلس تحضره ثلة من الناس.
غير ان الذى يبعث على الاستغراب ويثير استهجاننا حقاً هو ان أبا سن بادر الى نشر رسائل خاصة لم يكن هو طرفاً فيها أساساً. العلاقة المفترضة انما هى بين المجذوب والفتاة روزمارى، التى كانت الرسائل تصلها عبر البريد مباشرةً. الذى حدث هنا هو ان أبا سن حافظ هو ايضا على علاقة ما بالفتاة، ثم حصل منها بطريقٍ من الطرق على الرسائل التى يفترض ان المجذوب كان يبعث بها اليها، ثم أخفى هذه الرسائل لحقبة طويلة، حتى اذا غاب المجذوب عن الحياة، اخرج الرسائل من مخبئها واذاعها فى كتابه. والواقع ان بأيدينا دليلا قطعياً ، يوفره كتاب المذكرات، على ان المجذوب طلب من ابى سن، ابان وجود الاخير فى لندن، ان يتسلم نيابة عنه الخطابات التى سبق ان بعث بها الى الفتاة واعادتها اليه عن طريق الحقيبة الدبلوماسية. أقرأ فى رسالة منه بتاريخ 20/04/1968 :(أرجو اذا لقيتها [روزمارى] ان تتسلم هذه الخطابات وتعيدها اليّ بالحقيبة). الأمر اذن لا يحتمل الجدل. لقد تسلم ابوسن الرسائل فعلاً، فنفذ بذلك الجزء الاول من طلب صديقه، ولكنه التوى عليه بشأن الجزء الثانى، فلم يُعد الخطابات اليه عن طريق الحقيبة، وانما احتفظ بها لنفسه حتى يأتى اليوم المناسب لاستثمارها!
ولو كانت روزمارى مثلاً هى التى تولت كبر نشر الرسائل لاختلف الامر اختلافاً بيّناً، فهى هنا طرفٌ اصيل فى العلاقة. ولكانت والحال كذلك نظيراً لغادة السمان التى بادرت من عند نفسها فنشرت رسائل غسان كنفانى اليها، او العراقية ديزى الامير التى سعت الى نشر رسائل اخرى، مشابهة فى طبيعتها لرسائل روزمارى، كان المجذوب يبعث بها اليها. وغير هؤلاء كثيرات وكثيرون.
(4)
بيد أنّ الطامة الكبرى فى مسلك ابى سن هى مصادرته اسم المجذوب وتوظيفه واستغلاله على نحوٍ مُسف يزرى بشاعرنا الكبير أبشع زراية. وكانت استاذة الأدب الانجليزى الدكتورة لمياء شمت قد بادرت فكتبت قبلنا مستعجبةً تندد بصنيع ابى سن:(كيف أمكنه ان يتجاسر كل هذا التجاسر على المجذوب، هاتكاً حرمة خصوصيته بوقح الكلام الذى لا يرتفع الا بأجنحة الطبع والتوزيع، منازلاً صمته الأبدى بساقط القول الذى يقتحم حديقته سهلة الاكناف، حين نامت عنها الاعين وتركتها هكذا لترعاها الضباع، فتطفئ وردها، وتحصب ثمارها، وتسحق كائناتها الصغيرة واطيارها الصداحة، من للمجذوب؟ من للمجذوب؟!) وأضافت الدكتورة لمياء، وهى تواصل مسيرة الاحتجاج وتلقى بالاضواء الكاشفة على مهزلة استغلال اسم الشاعر الكبير:(تم توزيع الكتاب توسلاً او تسولاً، بعنوانه الذى يحمل اسم المجذوب، فى تحايل وضيع لم يرع ابسط مواضعات العلاقة بين النص وعنوانه. فقد قام كاتبه \"الجسور\" بفتق رتق الصلة المفترضة بين المضمون والعنوان، غير آبه البتة بامكانية كشف الخدعة المستخدمة فقط لغرض القبض على انتباه القارئ ريثما يتمكن الكاتب من سرد سيرته الذاتية العجائبية \"سيرة الكاتب نفسه\"، التى يتشابك دغل احداثها بصورةٍ تبهظ العقل والخيال معاً. وفى خضم نظام تلك السيرة الذاتية المدهشة لا يفوت على الكاتب ان يذكر المجذوب أحيانا بحفنة من العبارات تتفرق عبر الصفحات، حيث يتم استحضار المجذوب بشكل طارئ ليقوم بالتعليق او التأكيد على حكايا تدعم من مزاعم الكاتب، خاصة فى شأن فتوحاته الادبية والفكرية والسياسية الكبرى، ثم بعد ذلك يطرح المجذوب جانباً ليخلد ردحاً من الصفحات لصمتٍ رهيب لا يخرج منه الا لشهادة اخرى). [الرأى العام، 22/7/2001 م].
ولا جدال فى ان الكتاب لا يضيف الى شاعرنا الكبير مثقال خردلة. بل انه – وهذا هو الأنكى وأضل – يخصم من رصيده ويضعه كرمز من رموزنا الثقافية تحت اضواء سالبة. فليس من قيمة أدبية، او غير أدبية، يستقيها المرء من نشر معلومة تفيد بأن المجذوب لم يكن يصوم رمضان، ويجاهر بذلك فيدخن السيجار بغير مبالاة فى روابع نهارات الشهر الفضيل أمام رائد الاخوان المسلمين الشيخ على طالب اللهً؟! وليس هناك من قيمة يعتد بها فى تلك الاحاديث العجيبة المريبة عن تفصيلات الحياة الجنسية ودقائق القضايا المتعلقة بمعاشرة النساء على نحو ما جاء فى الرسائل المفترضة الى روزمارى. ثم ان الرسائل التى نشرها ابوسن، تُسقط على الرجل، من حيث لم يحتسب، أضواءً غريبةً شاذة لم يألفها السودانيون عن شاعرهم. فهى تظهره فى صورة الرجل المضطرب المتهافت على النساء من غير تثبت او روية. ولعل هذا ما حدا بالسفير جمال محمد ابراهيم ان يضيف فى مقاله الذى أشرنا اليه فى حلقةٍ متقدمة من حلقات هذه السلسلة: (ولعلي على يقين أنه لم يُعرف عن شاعرنا الراحل رحمه الله أنه كان \"زير نساء\" ، أو هو ممن شغلت ملاحقة النساء جلّ وقته ولونت علاقاته).
ونحن نعرف من الكتاب ان الفتاة روزمارى لم تكن فى الواقع سعيدة تماماً برسائل المجذوب اليها، بل انها لم تحتف به اجمالاً. كانت الرسالة تصلها بعد الرسالة فلا ترد، حتى اذا سطرت رداً متباعداً كتبته موجزا مقتضباً لا يروى ظمأ الصادى. وقد شكا المجذوب فى رسائل مفترضة الى المجذوب من اهمال الفتاة وعدم احتفالها به. ونفهم من بعض هذه المكاتبات ان روزمارى لم تكتب للمجذوب فى حقيقة الأمر سوى رسالتين فقط، مقابل الفيض المنهمر من رسائل المجذوب اليها. فعندما ساءت العلائق بين الطرفين نتيجة لاهمال روزمارى للمجذوب كتب الاخير غاضباً يطلب ان ترجع الفتاة رسائله اليها، مع تعهد منه بان يعيد اليها رسالتين، هى جملة ما كتبت الفتاة اليه. اقرأ فى خطابه الذى يؤذن بانتهاء العلاقة: ( أكون شاكراً لو اعادت الىّ خطاباتى، مع وعد شريف من جانبى بأن أبعث اليها بخطابيها).
ثم ان روزمارى شكت صراحةً من \"حرارة اللغة والاسلوب\" وذكرت انها لا تألف ذلك. وأشارت الى ان هذه الرسائل تسببت لها فى حرج مع خطيبها، اعتذر عنه شاعرنا، فقد كانت الفتاة مرتبطة برجل آخر. وذات الشئ ينطبق على رسائل المجذوب الى العراقية ديزى الامير، فقد ابدت استغرابها فى مقال منشور من ان المجذوب كان يكتب اليها تلك الرسائل مع ان العلاقة بينهما علاقة عارضة وليست بالعمق الكافى. كما انها طلبت الا ترسل الرسائل المتلاحقة على عنوان منزلها حتى لا تقع فى ايدى احد من اسرتها، واقترحت ان ترسل الى جهة وسيطة تتلقاها وتقوم بتوصيلها اليها. ومثل روزمارى لم تكن ديزى فى غالب امرها تكتب ردوداً منتظمة او غير منتظمة، بل كانت تجمع الرسائل وتضعها فى مظروف سميك، وهو المظروف الذى حملته فى وقت لاحق، سرة فى خيط، وسلمته الى رجاء النقاش!
(5)
خلافاً لما يظن كثيرون ممن لم يطلعوا على مراسلات المجذوب وروزمارى الانجليزية وديزى العراقية، ولكنهم ما فتئوا يمزجون الزيت بالماء بغير تبصّر، فان هذه الرسائل لا تتضمن أية قيمة أدبية يعتد بها تبرر نشرها على الملأ. وليس هناك من وجه للمقاربة او المقارنة بين رسائل المجذوب الى صاحبتيه، ورسائل انور المعداوى – على سبيل المثال – الى الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان، أو رسائل غسان كنفانى الى غادة السمان، او حتى رسائل العقاد الى مى زيادة، كما يشيع هؤلاء التخليطيون. فكل هؤلاء رجالاً ونساءً شخصيات متقاربة فى السن والفكر والشعور والاهتمامات، تعارفت تعارفاً مباشراً، تطور بعد ذلك الى صلات حميمةً، وقد جمعت بينهم الصوالين الادبية ومجالس السمر ودوائر المعاش والعمل المشترك. والاهم من ذلك ان الرسائل بين هذه الشخصيات تبودلت بين الطرفين، نساءً ورجالاً، تبادلاً متكافئاً، فلم تكن رسائل من طرف واحد، كما هو الحال بالنسبة لرسائل المجذوب لصاحبتيه المفترضتين فى غالبها الاعم. (بعث المجذوب بعدد مقدر من الرسائل الى روزمارى ولم يكن قد التقاها اصلاً، كما انه التقى ديزى الامير مرة واحدة لقاءً عارضاً على هامش احدى المؤتمرات الثقافية فى بيروت قبل ان يغمرها برسائله، كما اوضحت هى نفسها فى مقال منشور).
وقد تناولت أمر رسائل المجذوب هذه الناقدة السعودية المعروفة لطيفة الشعلان فى مادة مطولة نشرتها الشهر الماضى صحيفة (الحياة) اللندنية تحت عنوان (لطيفة الشعلان تعود الى قضية أدبية قديمة متجددة: أى حب جمع بين فدوى طوقان وانور المعداوى؟). وقد اشارت الناقدة السعودية فى اطار مقالتها الى رسائل الشاعر محمد المهدى المجذوب الى العراقية ديزى الامير. وكانت ديزى قد جمعت هذه الرسائل وسلمتها الى الناقد المصرى رجاء النقاش لينظر فيها. ولكن النقاش بعد ان تسلم الرسائل ومحصها تركها جانباً ولم يعرها اهتماماً. وقد توصلت الناقدة لطيفة الشعلان فى مقالها المار ذكره الى ان النقّاش اهمل رسائل المجذوب وتجاوزها لسبب هين ويسير وهو انه لم يجد فى هذه الرسائل قيمة ادبية تذكر. كتبت الناقدة الكبيرة: ( النقّاش ببساطة لم يجد فى تلك الرسائل القيمة الأدبية والتاريخية والجمالية .... والا لنشرها من غير تردد).
واذا كانت هذه هى آراء النقاد العرب حول رسائل المجذوب الى اديبة عراقية تقاربه فى السن، التقاها وتعرف اليها فعلا، فكيف يكون الحال بالنسبة لرسائل المجذوب الى فتاة انجليزية تصغره بست وعشرين عاماً، كتب اغلب رسائله اليها دون ان يكون قد رأى وجهها؟
(6)
قرأت مؤخراً مقالاً لحبيبنا السفير جمال محمد ابراهيم نشرته مؤخراً صحيفة \"السفير\" اللبنانية الرصينة، يشدد فيه النكير على الناقدة لطيفة الشعلان، ويظهر الاستهجان لما ابدته من \"تحقير\" لرسائل المجذوب الى العراقية ديزى الامير. وهو موقف يظاهره فيه ويؤازره عليه الاستاذ عمر جعفر السورى. وقد قرأت مقالة جمال بعنايةٍ فائقة، غير أن حججه ودفوعه وهجماته المرتدة على ابنة الشعلان لم تقع من عقلى موقعاً حصيناً. لا عبرة عندى بما خلص اليه جمال و عمر السورى من ان استنتاج الناقدة لا يسنده برهان ولا يعضده دليل. بل هو – وأيم الحق- استنتاجٌ وسيم يتكئ على جدران المنطق، وتدعمه القرائن الظرفية المتواترة. وليس ادل على ذلك من ان ديزى الامير نفسها كتبت فى مقال منشور، نوهنا به فى موقع سابق ضمن هذه السلسلة، ان رجاء النقاش كان يتحرق شوقاً للحصول على هذه الرسائل، ومارس عليها - فى سبيل الظفر بها - ضغوطاً هائلة، حتى اذعنت الاديبة العراقية واستجابت. فلما وضعت المرأة الرسائل بين يديه، ما لبث ان نظر اليها وتفحصها، ثم اشاح بوجهه عنها ولم يكتب فى شأنها سطراً واحداً!
جاء فى مقالة جمال، وهو رأى استحسنه فتبناه عن جعفر السورى: (هذه هى للأسف الشديد نظرة الانتلجنسيا العربية الى المبدعين السودانيين. فهم يستغربون فى كثير من الأحايين كيف بزغ نجم الطيب صالح، وكيف سطعت انوار الفيتورى ولا يعرفون غيرهما. ومن لا يملك الا ان يوافق صديقى عمر فيما كتب؟) وانا بطبيعة الحال لا اوافق جمالاً ولا اوافق عمر. وكيف اوافقهما وهما يخلطان الارز بالعدس ويشتتان الكرة يمينا ويساراً؟ فى العربان عنصرية؟ نعم، ما فى ذلك شك؟ وهى فاشية عندهم منذ عهد جدنا عنترة بن شداد ومن قبله. وما هو الجديد فى ذلك ايها الكاتبان الفحلان، أصلحكما الله وأصلح بكما؟ بيد أن حالنا لن يستقيم قط ان نحن روضنا انفسنا، الأمارة بتمحك المعاذير، على ان نغض الطرف عن أضواء الحقيقة المبهرة كلما سطعت، مثلما جذوة الشمس، واستخفينا فراراً من صهدها تحت غربال الميز العرقى.
(7)
لم يعد لدينا مزيد نقوله فى أمر الاحتيال الأرعن والافتئات على اسم المجذوب واستثماره، بغير حياء، لترويج التصاوير النرجسية وتسويق الاوهام الطاؤوسية. ولكن الدكتورة لمياء شمت عندها ما تقول اذ كتبت: (المجذوب الذى يحمل الغلاف اسمه مجرد حاشية على تلك المتون، او مجرد ظل لذاك الهيكل الضوئى المجيد، او قل مجرد سطح عاكس لتلك المجرة الدرية الغاصة بالضياء، او لعله مسرب جانبى لتصريف تلك الطاقات الذهنية المفيضة، اومجرد خلفية خافته لمسرح وجود ذاك الفرد المطلق. يُستدعى من آن لآخر للتعليق بصورة مجلوبة خالية من التلقائية على انجاز وفتوحات وعبقريات الكاتب. ان أعتى ميكانيزمات الاختزال والخفض لا يمكنها ان تحول المجذوب بكل قوة تأثيره الوجدانية وكارزيمية جاذبيته الاجتماعية الانسانية، وطاقته الفكرية والروحية وحساسيته المستدقة، وتبصراته العميقة وحججه الراجحة وحدسه النافذ وبيانه الوثاب الى محض هامش زائد. كيف يتحول المجذوب بتدبير ينطوى على الخبث الى مجرد ممثل آلى لدور ثانوى فى كتاب يتزين باسمه؟ من للمجذوب والأيادى اللصة تنبش حرمة قبره، وتحرق اوراقه وتسرق وسامته؟) \"المصدر السابق\".
وما زال ليلنا مع مذكرات أبى سن طفلاً يحبو!
[ نواصل ].
الرسائل العزيزية
عرّفناك من قبل، ايها الاكرم، على خالنا عبد العزيز محمد عبد اللطيف، قاضى المديرية الاسبق، والمستشار القانونى بالمملكة السعودية حالياً، والمعروف فى اوساط اسرتنا الممتدة باسم (مولانا عزيز). واطلعناك على بعض رسائله الالكترونية التى ما ينفك يبعث بها الينا على سبيل المناصحة. وهذا آخر ما وصلنا من رسائله يناصحنا فى أمر سلسلة الادب وقلة الادب:
(سلام يا مصطفى - انني في غاية الحزن والالم لأننى لا اعرف متي ستخرج من جلباب المشاطات وستات الشاى والجبنة وحكاياتهن الفارغة، ومن قال وقيل. لماذ تستهلك الوقت الثمين في كتابة كل هذه الحلقات وفي قيادة معركة فارغة لا قيمة لها؟ هذا موظف سابق في الخارجية وجد لديه الامكانيات المالية والوقت لكتابة ونشر كتاب زبالة مكانه برميل القمامة .لا اري سببا واحدا للانشغال بهذه التفاهات والانحدار لهذا المستوي . العبرة ليست فى طبع ونشر كتاب، وانما بشخص الكاتب وتاريخه وافكاره ومواقفه. وليس كل من طبع ونشر كتاباً يعتبر كاتباً. يا مصطفي أهلنا في السودان مشغولين بكسب العيش وما عندهم وقت للفارغات. الدكتور منصور خالد عنده قدرات كبيرة وفي غاية البلاغة والفصاحة ولا يحتاح الي محام للدفاع عنه، وهو ذاته لم ينحدر الي مستوي بذاءات ابوسن لانه يحترم نفسه فما دخلك انت بالموضوع؟ انت تقول ان ابوسن (عمد الى اعادة صياغة تاريخ قريب ما زالت وقائعه حية تنبض في صدور الناس). طيب اذا الوقائع حية فى صدور الناس انت تعبان ليه؟! ارجو منك ان تفحص وتقارن الكلام الفارغ الذى تكتبه انت بما كتبه الاستاذ فتحى الضو فى مقاله هذا الاسبوع عن الديكتاتوريات نقلا عن مجلة \"فورين بوليسى\" الامريكية. مقال جاد وممتاز وغنى ومفيد للقارئ، وبعيد عن شغل المشاطات. مع تحياتى.
خالك عبد العزيز).
انتهت رسالة خالنا مناضل الكيبورد، وعليها اشكره. واعتذر نيابة عن الاسرة لكل المشّاطات وستات الشاى على امتداد سوداننا الغالى. وقد احلنا الرسالة فى وقتها الى كهف صديقنا الاستاذ فتحى الضو، رئيس حزب الكهوف، بشيكاغو، الذي افادنا بأنه قام بتسجيل مولانا عزيز ومنحه بطاقة عضوية حزبه، الذى يضم جميع مناضلى الكيبورد على مستوى الوطن والمهاجر.
صحيفة \" الاحداث\"


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.