بحضور وزير الداخلية ومدير الجمارك.. ضبط (141) كيلو جرام من مخدر الآيس    رئيس نادي المريخ السوداني يكتب تدوينة متفائلة قبل مواجهة فريقه المصيرية أمام الجيش الملكي    شاهد بالفيديو.. أموال طائلة "مشتتة" على الأرض بإحدى الطرق السفرية في السودان ومواطنون يتسابقون على جمعها ويفشلون بسبب كمياتها الكبيرة    شاهد بالفيديو.. على أنغام "سوي كدة لمن يسحروك".. الفنانة هدى عربي تشعل مواقع التواصل بوصلة رقص مثيرة خلال حفل زواج أسطوري بالقاهرة وشاعر الأغنية يكتب لها: (الله يفرحك زي ما فرحتيني)    شاهد بالصور.. الشاعرة داليا الياس تخطف الأضواء على مواقع التواصل بلقطات وسط جنود الجيش: (أنا زولة بحب الجيش جداً وأي زول بيعرفني كويس عارف إني كنت شرطية في يوم من الأيام)    السودان تزايد الضغوط الدولية والبحث عن منابر جديدة للتسويف    على مراكب الغباء الكثيرة الثّقوب: دولة 56 والحمولات القاتلة    ارتفاع معدل التضخم إلى 218% في أغسطس    شاهد بالصورة.. من أرض المعركة إلى أرض الملعب.. مستنفر بالقوات المسلحة يوقع في كشوفات أحد الأندية الرياضية وهو يرتدي الزي العسكري    شاهد بالصور.. الشاعرة داليا الياس تخطف الأضواء على مواقع التواصل بلقطات وسط جنود الجيش: (أنا زولة بحب الجيش جداً وأي زول بيعرفني كويس عارف إني كنت شرطية في يوم من الأيام)    "يقابل بايدن وهاريس" الذكاء الاصطناعي والاقتصاد وغزة والسودان.. "أولويات" في زيارة بن زايد لواشنطن    موجة الانفجارات الجديدة في لبنان تشمل الهواتف وأجهزة البصمة وأجهزة الطاقة الشمسية وبطاريات الليثيوم    وزير الداخلية المكلف يلتقى بمكتبه وفد تنسيقية الرزيقات بالداخل والخارج    عاد الفريق حسب الي مكتبه برئاسة الجمارك .. ويبقي السؤال قائماً : من يقف وراء مثل هذه القرارات؟    المريخ يواصل التدريبات وعودة قوية الي رمضان    عثمان جلال: الواثق البرير ما هكذا تورد الإبل    أطهر الطاهر ضحية الانتقادات الإعلامية والجماهيرية    (كونوا بخير ياأسياد فكل المخاوف في هلالكم أمان)    نقل الرئيس السابق ورفاقه الى مروي لتدهور حالتهم الصحية    والي الخرطوم: تلقينا طلبات من منظمات لاعادة اعمار الولاية    توضيح من شرطة ولاية نهر النيل    هل تنقذ المدرسة الإيطالية أحلام رونالدو؟    باليوم والتاريخ وتحت شعار "وداعاً لن ننساكم".. قائمة طويلة بأسماء مشاهير سودانيين "شعراء وأدباء وفنانين ولاعبي كرة وسياسيين" بلغ عددهم 43 شخص فارقوا الحياة بعد نشوب الحرب في السودان    نصيحة لصلاح.. ستصبح "الأفضل" في تاريخ ليفربول    شاهد بالفيديو.. الكوميديان محمد جلواك يسخر من الحسناء "لوشي": (أنا الحمدلله بي أولادي انتي شوفي ليك "شوكلاتة" أزرعيها) وساخرون: (ضربو يا حكم)    حادث درنة الليبية.. مصرع 11 عاملًا مصريًا وإصابة 15 آخرين .. تفاصيل    خروج 8 من ماكينات غسيل الكُلى عن الخدمة بمستشفى المُجلد المرجعي    التعادل السلبي يحسم قمة مانشستر سيتي وإنتر ميلان في دوري أبطال أوروبا    وزير المالية الإتحادي يواجه ما يمكن تسميته بتضييق مساحات الحركة واللعب    هل يمكن تفجير الهواتف المحمولة مثل "البيجر"؟.. خبير "تكنولوجيا" يجيب    ضبط بكاسي تحمل كربون نشط ومواد    العلاج الوهمي.. مخاطبة العقل لمقاومة الأوجاع    محجوب فضل بدري: أنقذو عبد الرحيم    تمشيط أحياء واسعة بالأبيض من قبل قوات العمل الخاص    دراسة تكشف التغيرات بدماغ المرأة خلال الحمل    الشاعر والحرب.. استهداف أزهري أم القصيدة؟    وفاة الموسيقار حذيفة فرج الله    إدانة رجل في هونغ كونغ.. بسبب قميص "مثير للفتنة"    شيخوخة السكان.. كيف أثرت على اتجاهات شركات الأغذية؟    المرصد السوداني يدين قصف طيران الجيش للمدنيين وتدمير البنى التحتية    ترامب: خطاب بايدن وهاريس هو السبب في إطلاق النار عليّ    جابر يوجه بتكثيف العمل فى تأهيل طريق القضارف الحواتة    متحور جديد لكورونا يثير المخاوف.. هذه أبرز أعراضه    شاهد بالفيديو .. "شالو نومنا وشالو نعاسنا شالو روحنا وشالو انفاسنا" أداء رائع بمصاحبة الكمان    حوجة البشرية للاقتصاد الاسلامي، وقصة إنشاء بنك فيصل الاسلامي    ضحايا ومصابون بحادث تصادم قطارين في الزقازيق    500 يوماً مناصفة بين مناطق الجيش والدعم السريع (5)    القضية هزّت البلاد..محكمة تركية تصدر قرارها    لجنة أمن ولاية الخرطوم تؤكد إستقرار الوضع الجنائي وتتخذ تدابير لمكافحة الظواهر السالبة    ترامب: المناظرة أمام هاريس لم تكن منصفة بحقي    الداخلية السودانية تصدر قرارا    الحرب وتضخم الأسعار    مساعد البرهان يبشّر بتشغيل باخرة نيلية بين السودان ومصر    القبض على سعد الصغير في مطار القاهرة    دار الإفتاء توضح حكم التطوع بالصيام فرحا بمولد النبى الكريم    نُذُرُ الموت    مصطفى ميرغني: جنازة الخوف    أبناء المهاجرين في الغرب وتحديات الهوية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحاديث الادب وقلة الادب (6) التوابل الهندية في ثريد النرجسيةاا


غرباً بإتجاه الشرق
أحاديث الادب وقلة الادب (6) التوابل الهندية في ثريد النرجسية
مصطفى عبدالعزيز البطل
(1)
تظل روح النرجسية ونسائم الطاؤوسية، التي استأثرت بمذكرات الراحل علي أبوسن وغلبت عليها، في طليعة العوامل التي فتكت بكتاب \"المجذوب والذكريات\" فتكاً، وانتهت به الى منحدرٍ مُعتم، متنكّبٍ للجادة، ومفارقٌ لسكك الفكر الرصين. ولولا ذلك العوار، وبعض عللٍ أخرى، مما لحق بهذه السيرة الذاتية لكان خليقاً بها أن تأخذ موقعها اللائق كمصدر من مصادر فهم المجتمعات والدول وتدوين التاريخ. إلى جانب غَلَبة النرجسية والطاؤوسية، يأتي داء المجاهرة والتباهي بالسلوك الفضائحي السافر، والاندفاع المتلذّذ الى حشد الروايات التي تُظهر الكاتب وكأنه عُيينة بن حصن، أحمق فزارة المطاع، الذي قيل إنه مات عن عشرة آلاف جارية. بل أن الكاتب، كما بيّنا من قبل، لا تأخذه لومة لائم في أحاديث الجنس فيفضح أسماء شخصيات بارزة في مجتمعنا ويتحدث، دون خشية أو رادع، عن ولع هذه الشخصيات بالنساء، كما هو الحال مع صحافي سوداني كبير، رحل عن دنيانا قبل صدور الكتاب بسنوات، ذكر اسمه كاملاً، ثم حكى عنه حكايات لا تصلح للنشر عند أهل النُهَى، وكتب ان ذلك الصحافي اشتهر بين أصدقائه بلقب \"ود أبرق\"، ثم أضاف: (وهو نوع من العصافير شديد النشاط الجنسي)!
لا يطيق أبو سن إلا يتحدث عن ولعه الخاص بالنساء وولع النساء به للحظة واحدة، حتى إنه لم يجد وسيلة يعبر بها عن ضخامة حزنه على القائد الشيوعي عبد الخالق محجوب عندما تناهى إليه خبر إعدامه عام 1971م سوى أن يقول إن الأسى قد بلغَ به مبلغاً امتنع معه عن النظر الى صدور النساء العارية لأسبوع كامل، وهو مستلقٍ على بلاج شاطئ العراة المسمى \"سانت تروبي\" في منطقة الريفيرا الفرنسية. وبعد أن فصّل كاتب المذكرات نوبة الضيق التي اعترته بعد إعدام عبد الخالق ووصف الحالة النفسيَّة المزرية التي وجد نفسه في قبضتها من هول الفاجعة، كتب يصف أيامه الحزينة وهو على شاطئ الريفيرا: (كنت أقضي وقتي على البلاج.. ولم أخلق علاقة مع أحد. حتى في \"سانت تروبي\"، حيث تسبح الفاتنات عاريات الصدور، لم أجد في نفسي ميلاً إلى النظر..)، يا لجلال الموت ويا لعظمة المشاعر. وها نحن نعرف مقدار عبد الخالق وعمق معزته في نفس صاحبنا، الذي لا يترك صدور النساء في حالها إلا عند الملمات العظام.
(2)
وخلافاً لما قد يظن البعض فإنه لا اعتراض لنا من حيث المبدأ على تضمين كتب السيرة الذاتية جوانب من التاريخ السري لأصحابها، وقد شاع في صناعة المذكرات، منذ منتصف القرن المنقضى، ما يعرف ب(أدب البوح). ونحن مثل غيرنا لا نستملح الطُهرية الكاذبة، التي تصوّر كُتاب المذكرات في صور ملائكية مثالية. لم يقدح من مذكرات الزعيم الوطني المصري سعد زغلول في شيء انه اعترف صراحةً بأنه كان في بعض فترات حياته مولعاً بالقمار، ولم ينل من أديبنا العالمي نجيب محفوظ في شيء كونه أملى على كاتب سيرته الذاتية إنه كانت له علاقات نسائية آثمة، وإنه كان يتعاطى المخدرات في مراحل عمرية باكرة. ولكننا كرهنا من سيرة أبي سن أنه جعل من فتوحاته النسائية محور مذكراته وعمودها، فأفاض واستفاض، وأطال واستطال، حتى وقر في يقيننا أن الأمر ليس أمر سيرة ذاتية، بل أمر عقدة نفسية مستحكمة، وأن حاجة الكاتب الى طبيب نفسي يداوي عنه تلك الحالة المرضية، ربما سبقت حاجته الى كتابة مذكراته.
غير أن المجاهرة والتباهي المتعمد بالأخبار والأفكار الصادمة للشعور العام تصل ذروتها عندما يُظهر صاحب المذكرات - بغير مدعاة - الزراية والاستخفاف بعقيدة الإسلام، وهي عقيدة السواد الأعظم من أهل السودان. وذاك منحدرٌ وعر لا يطرقه طارق إلا وقد غابت عنه الحكمة وتملّكه شيطان مُريد، فما بالك برجل تلقَّى العلم في محاضن الإسلام ومعاقله: المعهد العلمي ودار العلوم!
(3)
لم أصدِّق عيناي عندما بلغت الصفحة الستين بعد المائة من الجزء الثاني، وفيها بعض خزعبلات أبي سن ومعاركه الدونكيشوتية مع الدكتور منصور خالد. يقول الكاتب إن منصور وضع على جدران مكتبه الوزاري عدداً من اللوحات التي تشتمل على آيات قرآنية، وأضاف إنه استفسر الفنانة كمالا إبراهيم إسحق عن هذه اللوحات القرآنية فأفادته بأنها من أعمال بعض فناني المعهد الفني بالخرطوم. والمعلومة صحيحة بالقطع، فقد كان أول ما تبادر الى ذهني وأنا أُطالع تلك الفقرة حديثٌ سمعته قبل عهد طويل من صديقي الدكتور الأمين حمودة الباشا، الذي عمل في النصف الثاني من التسعينيات خبيراً بإحدى المنظمات الدولية بنيروبي، وعندما كرَّ عائداً الى الولايات المتحدة كان مما حكاه لي انه زار مكتب الدكتور منصور خالد في العاصمة الكينية، وكانت أول ملاحظة له عندما ولج من باب المكتب هي لوحات الآيات القرآنية الضخمة المعلَّقة على الجدران. منصور إذن ممن يزينون المكاتب والمساكن بالآيات القرآنية، وماذا في ذلك؟ هو مسلمٌ ترَّبى في بيئة مسلمة.. هل هناك مشكلة؟! نعم. الجزء الأصغر من المشكلة هو أن كاتب المذكرات يعتقد أن بعض الآيات التي اختارها الوزير كان يستهدف بها أبوسن نفسه. وهذا من قبيل الوهم والهذر الذي ألفناه عند صاحبنا وما عدنا نتوقف عنده، خاصة وأن الكاتب يذكر آيات قرآنية بعينها، يقول الذين عاصروا ذلك الزمان أنها - خلافاً لزعم الكاتب - لم تكن من بين الآيات التي طرَّز بها منصور جدران مكتبه الوزاري. ولكن الذي حيّرنا وأرهق عقولنا هو الاستنتاج الذي استقاه أبوسن وصرَّح به كتابةً، تأسيساً على كون منصور يحتفي بالآيات القرآنية من حيث المبدأ. كتب أبوسن: (هذه اللافتات الحائطية [القرآنية] فجعتني مرة أخرى في منصور، لأنها كشفت لي أن علاقته بالحضارة والثقافة هي مجرد قشرة لا تلبث، عند حكة بسيطة، أن تكشف عما تحتها من جلد سميك من التخلف). هل صعقك هذا الاستنتاج الشاطح - أعزك الله - كما صعقني وحيّرني؟ هاك إذن مزيداً من الصعق ومزيداً من الحيرة، واقرأ هذا الدليل الآخر الذي توسَّل به صاحب المذكرات الى إثبات أن منصور \"رغم مظهره البراق بالثقافة والحضارة فإنه في جوهره رجل متخلف\". الدليل يا هداك الله، صدِّق أو لا تصدِّق، هو أن الدكتور منصور خالد يحمل معه دوماً داخل حقيبته الخاصة عند التسفار نسخة من المصحف الشريف!! وقد اجتهد صاحب المذكرات لتوفير البيّنات القاطعة على صدق ادعائه، فذكر اسماً لشخصية سودانية بارزة شهدت بأم عينها المصحف في حقيبة منصور خالد، وأضاف بكل ثقة إن هذه الشخصية سألت منصور عن سبب حمله المصحف الشريف في حقيبته، \"فكان رد منصور إنه يحمل المصحف معه دائماً لأنه يتفاءل به\" (ص، (160)، الجزء الثاني). يا لمنصور المتخلف! يعلِّق الآيات القرآنية على الجدران، ويحمل المصحف في حقيبته؟!
(4)
وقد عرضنا عليك من قبل – في مقام النرجسية – نماذج عديدة من الروايات التي اشتمل عليها الكتاب والتي يعرض فيها المؤلف نفسه في صورة الشخصية الأسطورية التي حازت المجد من أطرافه، حتى ليتقازم أمامه \"نيلسون مانديلا\" و\"شارل ديغول\" و\"بابلو نيرودا\". فهو الذي اجتمع قادة الأمة ورموزها على أن شفاء السودان من أسقامه ونجاته من وهدة التخلف ربما تحققت على يديه الكريمتين! يدهشك أن تقرأ في صفحات الكتاب كيف أن الزعيم إسماعيل الأزهري كان مأخوذاً بشخصية أبي سن، وهو لمّا يزل في عشرينات عمره، الى درجة أن دهاقين الساسة من شيوخ الحزب الاتحادي وقادته التاريخيين تملكهم الخوف على مواقعهم فجلسوا بليل يحيكون المؤمرات ويتناجون حول أنجع السبل لفك عُرَى الصلات الوثقى التي ربطت الفتى المعجزة بالأزهري. يحدثنا صاحبنا بأن الرئيس الأزهري كان يقدمه على كل السياسيين المخضرمين من أساطين الحزب وان القطبين الاتحاديين الضخمين أحمد زين العابدين وعبد الماجد أبوحسبو كانا يخشيان بأسه ويلتمسان الوسائل لإبعاده عن الرئيس (الذي كان يثق ثقة كاملة في رأيي ويقدمني على الجميع)!!
وقد استفاض صاحب المذكرات، ما وسعته الإفاضة، في تبيان عمق الصلات الشخصية التي ربطته برئيس الوزراء السابق بابكر عوض الله، وكيف انه كان من أقرب المقربين اليه. كتب: (كنت أسهر مع بابكر أربع ليالٍ في الأسبوع على الأقل). بل إنه كان عندما يحضر الى الخرطوم من مقر عمله بسفارات السودان بالخارج فإنه - بحسب المذكرات - كان يتوجه من المطار رأساً الى منزل بابكر عوض الله بحي العمارات فيقيم معه وسط أسرته. ولكن صاحب المذكرات اكتشف أخيراً أن بابكر، الرجل الوحيد في تاريخ السودان الذي جمع بين رئاسة البرلمان ورئاسة القضاء ورئاسة الوزراء، لم يسعَ إلى صداقته لوجه الله، بل لهدف دنيوي زائل، وهو أن (يستغل مقدرات) أبي سن (في مسعاه لتنفيذ انقلاب مايو). كتب صاحبنا إن \"مخطط\" بابكر كان هو: (أن يستغل مقدراتي ثم يلقيني كحبة النوى بعد أن ينجز انقلاب مايو)، فتأمل!
(5)
إلى جانب النرجسية المفرطة والتباهي بالفتوحات النسائية بغير مدعاة، فإن أكثر ما نالَ من قيمة المذكرات وأضرَّ بمصداقيتها هو ميل صاحبها الى الترخص الشديد في تدوين الحقائق الثابتة وإيراد الوقائع المحقّقة والمستقرة في الذهن العام، فضلاً عن خصلة الانسياق بغير تمييز أو احتراس وراء الرغبة الجارفة في تتبيل الروايات بالتوابل الهندية والعربية، والإفراط في دلق \"المحلبية\" على حنّاء مذكراته. وذلك كله مما يتعارض كلياً مع مقتضيات ومتطلبات إحسان فن الرواية والصدق في تقديم الحقائق بحسبانها أمانة ووديعة لدى التاريخ. بل إن صاحبنا يعمد في بعض الأحيان الى تغبية القارئ والاستغناء عن عقله تماماً، بالمراهنة على تقادم الوقائع والحادثات، والتعويل على خصيصة سرعة نسيان التاريخ عند السودانيين، فيعيد صياغة الاحداث، او يبتر خواتيم الأشياء كما تداعت على الأرض، ويخترع لها من عنده خواتيم تثير العجب وتبعث على الحيرة.
ما قولك في هذا المثال: يذكر صاحب المذكرات أن نائب رئيس مجلس قيادة الثورة ورئيس الوزراء استدعاه، بعد اندلاع انقلاب 25 مايو 1969م الى الخرطوم من مقر عمله بسفارة السودان بلندن، حيث كان يعمل سكرتيراً ثانياً. ويقول إن نائب الرئيس عرض عليه منصب وكيل وزارة الشباب. وبعد أخذ ورد قرر صاحبنا، بمحض رغبته واختياره، ألا يقبل هذا المنصب وأن يعود الى وظيفته سكرتيراً ثانياً في وزارة الخارجية. ثم يضيف، وهذا هو العجب العجاب بعينه، انه فرض على نائب رئيس الدولة أن يكتب له وثيقة يسجل فيها بخط يده إنه - أي أبوسن نفسه - هو الذي اعتذر عن المنصب بعد أن عُرض عليه، وأن نائب الرئيس وافق صاغراً وكتب له الوثيقة وسلمها له وهو يتمتم: (والله انتو يا ناس أبوسن، كرامتكم دي ما بتلعبوا فيها).
هذه هي رواية صاحبنا. ونحن نفترض جدلاً أن مكتب نائب الرئيس اتصل بأبي سن، بعد يوم أو يومين أو ربما وثلاثة من نجاح الانقلاب، عن طريق وزارة الخارجية. وأن أبا سن بادر الى الاتصال بمكتب الخطوط الجوية السودانية بلندن لحجز مقعد الى الخرطوم، فهو موظف دولة ملزم باستخدام الناقل الوطني، وذلك بطبيعة الحال في العام 1969م حيث كانت هناك طائرة واحدة فقط في الأسبوع تصل بريطانيا العظمى بالسودان. ثم سافر صاحبنا على جناح الطائر الميمون ووصل الى البلاد حيث التقى بعد ذلك بنائب رئيس الدولة وجرت بينهما المفاوضات حول توليه منصب وكيل وزارة الشباب. ثم فكر الرجل وقلَّب أخماسه وأسداسه، واستشار من أهله وأصدقائه أهل الشورى، ثم عاد بقرار الاعتذار عن تولي المنصب. عظيم. نحن هنا أمام فعاليات تستغرق في أفضل الاحتمالات سبعة إلى عشرة أيام! ولكن التاريخ المرصود، عنده رواية أخرى تجئ على النحو التالي: في صبيحة انقلاب الخامس والعشرين من مايو 1969م، صدر الأمر الجمهوري الثالث بتشكيل مجلس الوزراء، وأُذيع على الشعب عبر جهازي الإذاعة والتلفزة (جميع القرارات والمراسيم الجمهورية وبضمنها قرار تشكيل مجلس الوزراء كانت معدة سلفاً، وأُذيعت جميعاً بصورة متسلسلة ذلك الصباح، بصوت المرحوم المقدم (م) محمود حسيب). تضمن القرار الجمهوري، بعد تسمية الوزراء والوزارات، فقرة إضافية تقول بأن (هناك ثلاث وزارات أخرى هى: وزارة الشباب، ووزارة التعاون والتنمية الريفية، ووزارة الانتاج والاصلاح الزراعى، ستتم تسمية وزرائها خلال الأيام القليلة القادمة). وبالفعل وخلال أيام تمت تسمية الدكتور منصور خالد وزيراً للشباب (رشحه للمنصب وزير الإرشاد القومي وعضو الحزب الشيوعي الأستاذ محجوب عثمان). وعقب أدائه القسم مباشرةً قام الدكتور منصور خالد بتعيين المرحوم الأستاذ أحمد عبد الحليم وكيلاً لوزارة الشباب. هل ترى - أصلحك الله - كيف ان رواية أبوسن هنا لا تدخل العقل إلا كما يلج الجمل من سم الخياط! فالمنطق المدعوم بالتاريخ الثابت والمحقّق لا يقبلها ولا يزكيها. فإما أن المنصب عُرض عليه فعلاً، ولكن استعصى تنفيذه لأن الوزير الذي أجلسته الثورة على كرسي تلك الوزارة لم يقبل بالترشيح واختار للمنصب شخصاً آخر هو الأستاذ أحمد عبد الحليم، أو أن الرواية مختلقة من أساسها. والذي لا نشك فيه هنا هو أن النزعة النرجسية في شخصية صاحب المذكرات تجعل من الصعب عليه الاعتراف بأن منصور رفضه واختار بدلاً عنه شخصاً آخر!
(6)
المتمعن في روايات أبو سن المتلاحقة عبر مذكراته يلاحظ عنايته الشديدة بالآثار الانطباعية التي يمكن أن تتركها هذه الروايات على القارئ من حيث تأكيد وتثبيت صورته كإنسان رفيع ومتحضر ومثقف واسع الصلات. غير أن كثيراً من هذه الروايات تقود القارئ المتقصي إلى خلاصات مغايرة. فعندما يريد أبوسن أن يعرض بدايات حياته في أم درمان كمثقف يختلط بالصفوة ويعتني بقضايا الفكر فإنه يشير الى عضويته التأسيسية في ندوة، كانت تنعقد كل يوم أحد، تضم عدداً محدوداً من المثقفين، الذين سيصبحون من ذوي الأسماء اللامعة. العجيب هنا هو انه عندما يعرض لنا أسماء رفاقه المفترضين فإنك تكتشف انه لا يعرف هذه الشخصيات حقاً، وان غاية مراده من رص الأسماء وادعاء صداقتها ربما كان هو مجرد تقديم صورة معينة عن نفسه للقارئ. على سبيل المثال يكتب أبوسن في الصفحة (28) من الجزء الأول عن شخصية الراحل الصحافي الكبير جمال عبد الملك ابن خلدون، الذي يُفترض انه كان عضواً في تلك الخلية الصغيرة من المثقفين التي انتمى اليها صاحبنا، ويعرّف أبوسن الرجل على النحو التالي: (اسمه ابن خلدون، وهو مصري إخواني، جاء هارباً الى السودان مع زميل آخر له، وقد أصبح صحافياً وباحثاً معروفاً فيما بعد). والحقيقة ان ابن خلدون لم يكن قط عضواً في جماعة الإخوان المسلمين، لا فى مصر ولا فى السودان، وذلك لسبب ممعن فى البساطة، وهو ان الرجل لم يكن يدين بالإسلام أساساً، اذ انه قبطي مسيحي، (اسمه الأصلي \"عبد الملاك\"، قبل أن يقوم بتغييره). وكيف لقبطي مسيحي أن يكون \"اخوانيا\" نشطاً تطارده الحكومة المصرية فيهرب الى السودان كما يزعم صاحبنا؟ والحق أن ابن خلدون عرف بكونه يسارياً بارزاً من نشطاء حركة \"حدتو\" الماركسية. وأعجب لرجل يفخر بالانتماء الى خلية ضيقة من المثقفين لا شغل لها غير قضايا الفكر، ثم لا يفرق من أعضاء خليته بين الشيوعي والاخواني، ولا يميز بين المسلم والمسيحي!
ومثل هذا التخليط في أمر الشخصيات المحلية، تجده أيضاً في معالجة الكاتب لبعض أسماء الأمريكيين والأوربيين المتناثرة فوق صفحات الكتاب. فعندما ركب المؤلف موجة إثبات عمالة منصور خالد للمخابرات الأمريكية تجده يذكر اسماً لشخصية أمريكية شهيرة على المستويين الأمريكي والدولي هو المستر صاي سالزبيرجر الذي نفهم من المذكرات أن منصور على علاقة به، والعلاقة بسالزبيرجر هذا، بحسب أبو سن، توقع المتورط فيها لزوماً في محظور الاشتباه بالعمالة للمخابرات الأمريكية. وقد تم تعريف سالسبيرجر في الكتاب هكذا: (عميل المخابرات الأمريكية المعروف). وتلك من التعريفات المحيرة أيضاً، فكيف يكون الفرد عميلاً مخابراتياً ويكون معروفاً في ذات الوقت؟ وتخطّف الأسماء الأجنبية من المصادر المختلفة كيفما اتفق وإيرادها في كتابات السودانيين بغرض إثبات السلطة المعرفية المتخطية للحدود المحلية بلية من البلايا التي رزئنا بها. وواضح من السياق الذي أورد فيه أبوسن اسم سالزبيرجر انه لا يعرفه، ولو عرفه لما تردد في إيراد صفته الحقيقية، أو لامتنع، على الاقل، عن وصفه بأنه \"عميل معروف\" للمخابرات الأمريكية. وأغلب الظن انه وقع على اسمه سماعاً فحفظه ثم أخذ يخبط به خبط عشواء. الواقع أن صاي سالزبيرجر هو واحد من أهم الشخصيات في الولايات المتحدة، وقد يشق على مدير المخابرات الأمريكية نفسه أن يحصل على موعد لمقابلته! سالزبيرجر هذا من أكبر ملاك صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، وهو صديق لمنصور خالد بحسب كتابات منشورة. والنيويورك تايمز والواشنطن بوست هما الصحيفتان اللتان يترقب الناس، في الولايات المتحدة وأوربا، ويترصدون رؤاهما ومواقفهما من الانتخابات العامة لكيما يروا الى أي جانب من مرشحي الرئاسة تقف الصحيفتان، فرأيهما دوماً هو الرأي المرجح. وملاك النيويورك تايمز والواشنطن بوست، مثل ملاك جنرال موتورز، هم من يحكمون أمريكا.
ومثل ذلك الولع غير المستبصر بالأسماء الكبيرة واللامعة تجده عند استخدام الكاتب لاسم الصحافي الفرنسي الأشهر أريك رولو، الذي يرد اسمه في الكتاب عدة مرات هكذا: (اليهودي اريك رولو). ومثل هذا النوع من الاستخدام للاسم مسبوقاً بالديانة تجده عادةً عند المتطرفين الإسلامويين، ورجرجة الكتاب من المتبذلين الى الجمهور الأسفل من عامة العوام، الذين يستهويهم هذا النوع من التوصيف الاستعدائي الأجوف للشخصيات الدولية. وورود مثل هذه الأوصاف من رجل يضع الكثير من المساحيق الحضارية الغربية على وجهه، لدرجة انه يعتقد أن حمل المصحف في الحقائب الشخصية ربما كان مؤشراً على التخلف الحضاري، مما يثير العجب. ولكن العجب يُبطله عرفان السبب. والسبب أن \"اريك رولو\" هو أيضاً صديق لمنصور خالد. ولا مانع في هذه الحالة من غض البصر عن \"مقتضيات الحضارة\" واللجوء الى حيل التخلف. ولكن الشيء الذي لسنا على يقين من أن أبا سن كان يعرفه هو أن منصور ليس الصديق السوداني الوحيد للفرنسي \"ايريك رولو\". الذين يعرفون السودان والسودانيين جيداً، يعرفون بالقطع أن الصديق الأول، بل أصدق أصدقاء \"اريك رولو\" في السودان، كان هو الراحل عبد الخالق محجوب، وهو ما كتبه \"اريك رولو\" نفسه. وكنا نظن أن أبا سن يحترم عبد الخالق ويقدره حق قدره، مما يوجب عليه أن يبدي بعض الاحترام اللائق لأصدقائه من الأجانب. ألم يخبرنا انه أضرب عن نهود النساء وأعجازهن الطرية لسبعة أيام كاملات حزناً عليه؟!
(7)
وعلى حرص أبي سن على تقديم نفسه كرجل فكر ومنهج، وإكثاره من الاستدلالات والإيحاءات الأكاديمية في مذكراته، فإنك لا تخطئ الهشاشة الظاهرة في بنيته المنهجية العلمية. من شواهد ذلك أن أبا سن تطوَّع بصياغة تعريف لمصطلح \"النخبة\"، وذلك في إطار معركة افتعلها وأراد لها أن تكون صراعاً فكرياً بينه وبين الدكتور منصور خالد، حيث افترع مع الرجل نزاعاً حول التعريف الصحيح لذلك المصطلح. ومنازعة منصور وملاقاته في الشعاب الفكرية رياضةٌ خطرة يجمل بأهل النُهى التنائي عنها، فإن لم يكن من الملاقاة بدٌّ فاسألوا الله السلامة. ما علينا، المهم أن أبا سن قدَّم لنا مشكوراً في إطار فتحه الفكري تعريفاً لمصطلح النخبة، وهذا هو التعريف: (النخبة هي الفئة الوطنية الواعية التي تتميز بالطموح الوطني في التقدم والرفاهية لشعبها وتتصف بالاعتزاز الوطني والمصداقية). ولا بد أن فئة من قرائي الأفاضل من معاشر الأكاديميين والمهتمين بالفكر والمنهج إجمالاً، فضلاً عن الأحبة من عشيرة بنى ثقيف، أخذت الآن تهز رأسها وتضرب كفاً بكف، فالاصطلاحات جميعاً، كما هو في علم أهل المصطلح، لا يتم تعريفها بمعايير قيمية. ولا نظن أن صاحبنا كان قد قرأ في حياته العامرة بالمبهجات أياً من معاجم اللغة أو السياسة ليعرف ما الذي يعنيه حقاً مصطلح النخبة(Elite) ، قبل أن يُلقي بنفسه في لجة ذلك العراك!
ويحيّرنا أن المؤلف لا يأبه ولا يلقي بالاً للتناقضات التي تحفُّ برواياته التى لا تنتهى، فهو يكتب انه ذهب الى قصر الاليزيه لحضور حفل عشاء دبلوماسي ممثلاً للحكومة السودانية، وقد كان يشغل وظيفة دبلوماسية بسفارة السودان في باريس. ثم يمضي قُدُماً فيذكر أن الصحافي الكبير الراحل محمد الخليفة طه الريفي نشر في الصفحة الأخيرة من جريدة \"الصحافة\" صورة له - أي لأبي سن - وهو يصافح الرئيس الفرنسي أثناء ذلك العشاء، وأن الريفي تعرَّض للتقريع الشديد وكاد يفقد وظيفته بسبب نشر الصورة. لماذا؟ لأن بعض النافذين في حكومة مايو احتجوا على نشر صورته وهو الرجل (المعروف بمعارضته للنظام)! سبحان الله. كيف يكون الواحد من هؤلاء \"معروفاً بمعارضته للنظام\" ويكون في ذات الوقت ممثلاً لحكومة ذات النظام في الموائد والمحافل الأجنبية؟ والذين عاشوا ذلك الزمان يدركون تماماً أن \"المشتبه\" فقط في معارضتهم للنظام، ما كانوا يجدون لأنفسهم موطئ قدم في وزارة كوزارة الخارجية ولا في غيرها، ناهيك عن أن يكون الواحد \"معارضاً معروفاً\" كما يتفاخر صاحبنا. ومن غرائب المدهشات ان الرجل \" المعروف بمعارضته للنظام\" عاد الى الخرطوم سالماً غانماً عند انتهاء فترة عمله الدبلوماسى بباريس، بعد سبعة أشهر فقط من ذلك التاريخ، فكان اول عمل له بعد عودته، كما سبق وبيّنا، ان بادر وأشرف بنفسه على تأسيس فرع الاتحاد الاشتراكي برئاسة وزارة الخارجية، وتولّى منصب أمين فرع موقع العمل بالوزارة، ثم انتقل في وقت لاحق ليصبح عضواً من أنشط أعضاء أمانة العلاقات الخارجية بتنظيم الاتحاد الاشتراكي، وقد طمح الى تولي منصب أمين تلك الأمانة المتخصصة، وهو ما يعادل درجة الوزير المركزى، لولا أن أطاحت به وبآماله مؤامرات السياسيين!
(8)
وحكايات منصور مع توابل أبوسن لا تنتهي. وعلى عادته في أن ينسب الى الآخرين بدون حساب ولا خشية من عقاب، فقد نسب صاحبنا الى منصور انه (استجوب) الراحل عبد الخالق محجوب قبل مقتله عقب أحداث يوليو 1971م وان عبد الخالق رد على إحدى أسئلة منصور أثناء الاستجواب بقوله: (أنا عايز أنتهي). وذلك على الرغم من أن لمنصور كتاب كامل صدر قبل مذكرات أبوسن بسنوات طويلة فصّل فيه أمر لقائه بعبد الخالق قبل محاكمته تفصيلاً دقيقاً (الصفحة 24 وما بعدها، من كتاب Nimeiri and the Revolution of Dismay ، الفصل المعنون Euphoria and Tension). ولم يحدث أن استجوب الرجل عبد الخالق ولم يسأله سؤالاً واحداً، بل ولم يلتقِ به قط منفرداً وإنما في معية عدد كبير من الناس. وكل ما دار بينهما هو انه حيّاه وأشعل له سيجارة. وكل من لاحق الوقائع المحققة والمنشورة لتلك الأحداث يعرف أن عبارة (أنا عايز أنتهي) عبارة جد ذائعة في التاريخ السياسي السوداني المعاصر، بعد أن أصبحت من مأثور ما ورد على لسان عبد الخالق في إجابة له على إحدى الأسئلة التي توجه بها اليه الرئيس السابق جعفر نميري على ملأ من الناس. وقد أُذيعت وقائع استجواب النميرى لعبد الخالق عشرات المرات، كما إن مئات الوثائق الراصدة لأحداث 1971م تحفل بها!
ويذكر أبوسن على نهج تتبيل الروايات وإضافة الملح والفلفل اليها ان النميري، في ثورة غضب جامحة، (عزل الوزير وحاكم الإقليم الشرقي الراحل عبد الله الحسن الخضر بعد أسبوع واحد من تعيينه). وغضبة النميري من الرجل حقيقة، ولكنه لم يعزله بعد أسبوع، بل استمر عبد الله الحسن حاكماً للإقليم لمدة اثني عشر شهراً بالتمام والكمال! ومن رواياته المتبّلة، التي لا يقبلها العقل، ولكنه لا يتردد في إيرادها، انه كان له الفضل في إنقاذ حياة الفنان التشكيلي عثمان وقيع الله من موت محقق. كيف؟ يقول إن الفنان الكبير كان يرقد فاقد الوعي تماماً، تفصله من الموت لحظات، في قسم الحوادث بالمستشفى بلندن، ولكن الأطباء تركوه لمصيره ورفضوا علاجه، لأنهم لم يعثروا على جواز سفره. ولكن أبا سن ظهر فجأه وأبرز بطاقته الدبلوماسية فوافق الأطباء على علاجه وكتبت للفنان الكبير حياة جديدة. ومعلوم أن المستشفيات وأقسام الحوادث في أوربا كلها وفي الولايات المتحدة وكندا، بنص القوانين السائدة في تلك البلدان، تقدم العلاج الفوري للمرضى والمصابين الذين يصلون الى غرف الطوارئ، دون سؤال عن جواز السفر أو غيره. وليس صحيحاً أن الإنسان يُترك ليموت في أي من الدول الغربية إذا كان فاقداً الوعي ولم يُعثر معه على جواز سفر كما يحدثنا صاحب التوابل!
غير ان من ألطف الروايات المتبلة بالبهار الهندي التي وجدتها عند أبي سن تلك التي زعم فيها ان القصر الملكي في بريطانيا رفض تسلم أوراق اعتماد سفير السودان الراحل سر الختم الخليفة، لأن رجال المراسم الملكية ظنوا انه يحمل لقب سير، وذلك تأسيساً على الحروف الثلاثة الأولى من اسمه (Alkhatim-Sir)، حيث ان التقليد البريطاني يقضي بأن حاملي لقب سير لا يضعون ألقابهم أمام أسمائهم عند مخاطبتهم للملكة. ومن أغرب الغرائب التى تستتبعها هذه الرواية - لو أننا صدقنا أبي سن، أن القصر الملكي، وهو الجهة التي تمنح الألقاب في بريطانيا، لا يعرف ان كان قد منح سودانياً هذا اللقب الرفيع ام لا! وقد أجمع عدد من السفراء والدبلوماسيين الذين عاصروا الراحل سر الختم الخليفة وسنوات سفارته في لندن على نفي هذه (النكتة) نفياً تاماً، ولكنهم أيضاً ردوها الى أن الكاتب انما أراد أن يضيف شيئاً من الفلفل للطرفة التي كانت سائدة في ذلك العهد بين السودانيين عند الإشارة لرئيس وزراء حكومة أكتوبر سر الختم الخليفة، خاصةً عندما يتحدثون بشأنه مع البريطانيين!
الاحداث


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.