[email protected] توطئة: بعد الهروب من مواجهة مُسْتَشكِلات الواقع السياسي في السودان الذي مارسه \"البعض\" في السودان؛ الذي نال أكثر من حظه من الشقاء على مدى خمسة عقود، اكتشف الهاربون أنهم لم يفعلوا شيئاً غير مخادعة النفس ومُعَاركة طواحين الهواء. فبالتفاتة فجائية لمسيرة الهروب تلك، فطن الناس إلى \"الكُلفة\" الباهظة التي سيدفعونها جراء ذلك الفعل فعَنَّ لهم الحديث عن وحدة السودان التي \"تهربوا\" ابتداءً من مقابلة أُسسها ومقوماتها بالصياح من على سقوف المنازل باتهام قيادة الحركة الشعبية بتكريس جهدها للعمل على فصل جنوب السودان تارة، وإدارة ظهرها لحلفائها في التجمع الوطني الديمقراطي وقوى الإجماع الوطني تارة أخرى. لذلك التَزيُّد انضم نفر ممن يطلقون على أنفسهم \"الأقلية الشمالية\" بالحركة الشعبية لتحرير السودان انخرطت، حسب زعمها، في العديد من الاجتماعات والورش بهدف مناقشة محاسن الوحدة في مقابل مساوئها، استباقاً لإعلان نتيجة الاستفتاء المزمع إجراؤه في يناير القادم. وهو نشاط حاول صانعوه إعطاءه صفة تنظيمية بنسبته للقطاع الشمالي، والقطاع برئ من ذلك بسبب انشغاله بتنظيم نفسه وبقضايا الراهن السياسي التي توزع أعضاؤه على العديد من اللجان ومن بينها لجنة لدراسة ممارسة الجنوبيين لحق تقرير المصير. كما أن إذاعة من يسمون أنفسهم ب \"الأقلية الشمالية\" لخبر النشاط الذي يأتونه تحت غطاء القطاع الشمالي للحركة الشعبية لتحرير السودان، ينطوي على العديد من الإيحاءات والإشارات الإثنية السالبة. لأولئك وهؤلاء نحاول في هذا المقال \"استِنْكاه\" عناد صراع الأخوة-الأعداء، الذين اصطنعوا بأنفسهم أسباب خلافاتهم وعداءاتهم وطفقوا يبحثون عن كيفية حلها. باستعراض إسهاماتهم فيما بلغناه من وضع ضمن المساجلة الجارية الآن لنرى أين تنكبنا طريقنا وضللناه؟ وكيف أوقفنا، بوعي أو بغيره، عجلة الصيرورة التاريخية ولما بعد نبلغ هدف تكوين وبناء أمة سودانية/سودانوية يُعتزَّ بالانتماء إليها ويُفخر بالدفاع عنها كما قال بحق الراحل قرنق. موضوعة حق تقرير المصير .. والحافظة السياسية السودانية تُحدثنا سِيَّر الأولين من آباء استقلال السودان ومؤسسي مؤتمر الخريجين عن عمق الخلافات التي استغرقتهم آنذك في محاولاتهم لإجلاء المستعمر عن الوطن وتحقيق استقلاله. تلك المحاولات اصطدمت غير مرة بحقائق التباين والاختلاف الذي حبا الله به السودانيين من حيث ألوانهم ولغاتهم وأديانهم. تلك كانت البداية التي حدت بشعوب التخوم الجنوبية إلى المطالبة، والاستعصام ب \"الفيدريشن\" كنظام أمثل لإدارة ذلك التعدد والاختلاف إن قيض للسودان أن ينال استقلاله. فمن ناحية سيظل السودان بلداً متوحداً، وسيتقي الجنوبيون، من الناحية الأخرى، شرور المَيْز العرقي التي تمظهرت في المحاولات الساعية لتعريف السودان بالدولة \"العربية\" و\"الإسلامية\" منذ إعلان تكوين مؤتمر الخريجين الذي حدث أن لم يكن من بين أعضائه خريجاً جنوبياً! قَبِل آباء الاستقلال، بمنطق ميكافيللى، مطالب الجنوبيين بالفيدرالية في سبيل تصويتهم لإستقلال السودان عن الحكم الثنائي، ولما فعلوا أُختينوا من قبل زملائهم ليندلع حوار مسلح عنيف قبل إعلان الاستقلال \"المزعوم\" من داخل البرلمان كسابقة اختلفت كثيراً عن نظيراتها في البلدان الأفريقية آنذاك. تلك كانت بداية \"الاستهبال\" السياسي الذي مارسه ساسة الشمال والذي حمل الجنوبيين ساعتئذ إلى إعلاء سقف مطالبهم إلى استقلال جنوب السودان، بدلاً عن فيدرالية وحكم ذاتي كان يمكن أن يمتص الاحتقان الذي غذَّته عنافة الحوار المسلح الذي أنهك الوطن وأهلكه في تجليه الأخير بقيادة الحركة الشعبية لتحرير السودان. تَقاوَدت الحكومات \"الشمالية\" منذ إعلان الاستقلال وحتى اختطاف الإنقاذ الحكم بليل يونيو 89، تقاودت الاستهبال السياسي حتى وجدنا أنفسنا أمام \"ورطة\" حق تقرير المصير التي أوسعت الفتق الذي أعيا الراتق \"المفاوض الحكومي\" بنيفاشا بفضل انسراب تلك المفردة إلى الأدب السياسي في السودان وعدم مبارحتها لا لوثائق النظام الحاكم ولا وثائق معارضيه. أسميناه استهبالاً سياسياً لمحاولات آباء الاستقلال وورثَتِهم من بعد التذاكي على أقرانهم من الجنوبيين؛ ففي البدء وعدوهم بالحصول على الفيدرالية ولما نالوا الاستقلال، تنكروا لما عاهدوهم عليه وتَمحَّكوا عند النظر بعين الاعتبار لتلك المطالب. كان ذلك في عهد أول حكومة ترأسها إسماعيل الأزهري، أما في حكومة السيد سر الختم الخليفة فقد بلغ الاستهبال قمته إبان مفاوضات المائدة المستديرة مارس 1965 بين ممثلي الأحزاب الشمالية والجنوبية على حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان للاختيار بين الوحدة، الفيدرالية أو الانفصال، عندما قامت الأحزاب التقليدية بصناعة حزب جنوبي أطلقوا عليه أسم حزب وحدة السودان ليعمل على رفض فكرتي الفيدرالية وحق تقرير المصير. كانت هذه هي المرة الأولي التي يذكر فيها الحديث عن حق تقرير المصير بتلك الصراحة وتلك الخيارات، على أن أدّلَجة الاستهبال السياسي الذي أعملته الجبهة الإسلامية القومية هو الذي زاد طين ورطة البلاد بِلة! إذ تصور نظام الإنقاذ أن الانشقاق الذي قاده الدكتوران رياك مشار ولام أكول في 1991 يمثل بداية النهاية للتمرد الذي قاده قرنق وحركته الشعبية، فسعى إلى \"استئلافهما\" بما يملك وبما لا يملك بهدف \"جنوبة\" الحرب وتحويلها إلى جنوبية-جنوبية أولاً، ومن ثم سحب البساط من تحت أقدام قرنق، البندقة التي استعصت عليهم حرباً سلماً، قبل الانقضاض والقضاء عليهما معاً لمواصلة الفتح الإسلامي الذي بدأوه في الخرطوم. لتحقيق تلك الغاية أوفد النظام رسوله الدكتور على الحاج للُقْيا المنشق لام أكول والتوقيع معه بفرنكفورت في فبراير 1992 على اتفاق سلام يكفل للجنوبيين ممارسة حق تقرير المصير وإن أدى إلى الانفصال فيما يشبه عطاء من لا يملك لمن لا يستحق. لذلك لم تَسْتَمنِن الحركة الشعبية حق تقرير المصير من الجبهة الإسلامية لأنها لا تملك أن تَمُن به عليها، لكن الحركة استخدمت ذات الكارت بعد أن ضمن في إعلان مبادئ الإيقاد لتفضح به \"استهبال\" الجبهة. فبعد أن رفض النظام في 1994 إعلان المبادئ كلياً طرحت الحركة الشعبية خيار الكونفيدرالية بدلاً عن حق تقرير المصير على أساس أن الأولي ستبقي على وحدة السودان. رد النظام المتناقض على ذلك الطرح حمل الأستاذ على عثمان وزير الخارجية حينها إلى تلفزيون السودان \"القومي\" حاملاً خريطة لجنوب السودان تمتد حدودها الشمالية إلى مشارف مدينة كوستي ليستلفت بها انتباه العامة لمخططات الحركة الشعبية \"التوسعية\"! على الرغم من أن منطق امتداد حدود جنوب السودان شمالاً اتخذته الحركة دليلاً على وحدويتها في مقابل اعتراف النظام للانفصاليين بحق تقرير المصير وإن أدى إلى الانفصال عند حدود 1956. بعد ذلك الانقسام وبعد أن لعقت جراحها، عقدت الحركة الشعبية لتحرير السودان مؤتمرها العام الأول بشقدوم في أبريل 1994 وأكدت فيه على موقفها من وحدة السودان على أسس جديدة، وأوصى المؤتمرون على أن يكون تحقيق ذلك الهدف عبر ممارسة حق تقرير المصير، لأن الواقع الذي أفرزه الانشقاق في المناطق التي كانت تسيطر عليها وتدير منها عمليات التحرير لا يمكن تجاوزه. مذ ذاك كان إصرار الحركة على تضمين حق تقرير المصير في أجندة كل المفاوضات التي خاضتها مع نظام الإنقاذ ومع القوي السياسية الأخرى بدءً بإعلان مبادئ الإيقاد الذي رفضه النظام، وهو اللاجئ ابتداءً إلى الإيقاد للتوسط في حل المشكل، وأُرغم بآخرة على قبوله في 1997. أيضاً تم تضمينه في مقررات مؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية 1995 وانتهاء باتفاق مشاكوس الإطاري في يوليو 2002 بكل تفاصيل آليات تنفيذه، في اتفاقية السلام الشامل حذر تكرار تجربة اتفاقية الخرطوم للسلام التي انهارت بفعل التنصل والاستهبال عند حلول أوان إجراء الاستفتاء الذي تقبله النظام وإن أدي إلى \"الانفصال\"! هكذا، وباختصار غير مخل، وصلنا إلى موضوعة حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان الذي سيمارسه فيما تبقي من بضع شهور على نهاية الفترة الانتقالية. لا نراغم الحقيقة إن قلنا أن هذه الموضوعة جاءت كمنتوج لمراكمة ممارسات سلبية لبعض ساسة الشمال ممن قضي نحبه وممن ينتظر منهم. لهذا، بدلاً عن العَرج الذي يسم الحوار الخفيف ذي الثقوب شأن حافظتنا السياسية، وبدلاً عن الملامة الموجهة لقيادة الحركة الشعبية في كل الأحايين يجب أن توجه الطعان إلى من اجترحوا الذنب بداهةً لا استعذاب التشفي في ظل الفيل بالمحوك عند مسئولية الحركة الشعبية بالعمل مع المؤتمر الوطني على جعل الوحدة جاذبة المنصوص عليها في كتاب نيفاشا، والأخير يعمل على \"استيلاد\"، على غرار أسلافه من آباء الاستقلال، الأحزاب الجنوبية لتنشط معه في فَك \"أُنشوطة\" حق تقرير المصير التي استحكمت حلقته حول عنقه وللعجب من ذات الشخوص الذين تشاركوا معه نسج الأنشوطة ابتداءً! حق تقرير المصير، أو بالأحرى، انفصال جنوب السودان كان، وما زال، غاية شاغلت وجدان القوميين الجنوبيين ممن ضمتهم عضوية الحركة الشعبية الذين نشطوا بشدة عقب توقيع اتفاقية السلام الشامل وبعد الرحيل المفاجئ للدكتور قرنق. تمثل ذلك النشاط في بعث محاولاتهم \"القديمة\" الرامية إلى اختطاف الحركة الشعبية رائدة التغيير وقبر خطها الوحدوي الذي انتهجته، لاسيما بعد مأساة الموت المفجع لرئيسها ومؤسسها ومنظرها د. جون قرنق، العقبة الكأداء التي اعترضت طريقهم ومحاولاتهم. لهذا يخطئ كثيراً من لا يستصحب الفراغ الذي خلفه غياب قرنق عن خارطة الفعل السياسي في تقييمه وأدائه ومقارنته لأداء الحركة الشعبية لتحرير السودان قبل وبعد توقيع اتفاقية السلام الشامل. فتسونامي الغياب كاد أن يقضي على وجود الحركة نفسه ناهيك عن برامجها وأهدافها بما في ذلك تعاطيها مع قضية كحق تقرير المصير الذي تتهم بالتركيز عليها دون سائر القضايا \"القومية\" الأخرى. على أن الانكفاء جنوباً، مما عُد تراجعاً عن برامجها وأهدافها القومية ومشروع سودانها الجديد، يبرره تعامل المركز وقواه السياسية مع تنفيذ اتفاقية السلام الشامل، مما سنتناوله في هذه المداخلة، التي مثلت سانحة جيدة لتأسيس نظام حكم يمثل الحد الأدنى من التوافق على الرغم من تحفظ البعض على نظام الحكم الذي أوجدته الاتفاقية \"one country-tow systems\". إذن محاكمة الحركة بسبب \"تراجعها القهقرى\" يستدعي محاكمات نظيرة إن لم يك ُلشريكها الأكبر فقط، فللقوى السياسية التي استعداها ذلك الشريك طوال سني حكمه ولم تتجاسر على ابتداع أساليب وأدوات تساعدها على حمله على القبول بالتحول الديمقراطي الذي أرست \"جيناته\" السي بي إيه، كما أنها لم تتعهده بالرعاية الكافية. والحركة الشعبية عندما وقعت على اتفاقية السلام الشامل بكل بنودها \"الخطيرة\" تلك، كانت تعلم أن الاتفاقية عبارة عن أداة لتفكيك لنظام الإنقاذ ودولة الحزب الواحد التي فشلت عن تفكيكها القوى السياسية مجتمعة. عن ذلك قال الراحل د. جون قرنق إنه بتوقيع اتفاقية السلام الشامل فقد فتحنا كوة صغيرة في جدار نظام الإنقاذ وعلينا أن نعمل على زيادة تلك الكوة وصولاً للتفكيك الكامل لذلك النظام، وهو فعل فيما نظن يتطلب جهد القوى السياسية مجتمعة وما زلنا في درجاته.